وحدة الوجود عند الدكتور فريد الأنصاري

وحدة الوجود عند الدكتور فريد الأنصاري
أقلام حرة / الأحد 24 أغسطس 2025 - 15:32 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم:د.أ/عبد الرزاق الجباري

لا مراء في أن مذهب "وحدة الوجود"، أو ما يصطلح عليه عند البعض بـ "وحدة الشهود"، قد استأثر بعناية أئمة التصوف العرفاني وأهله، فاتخذوه جوهرا لعقيدتهم ولُبّها. ويتأسس هذا المذهب، عند هؤلاء الأئمة، على نفيِ السوى والغيرية مع وجود الله عز وجل، والقول بأنه لا وجود حقيقي إلا له سبحانه وتعالى، إذ هو المتفرد بالوجود دون سواه، وأن ما عداه إنما وجد به، فوجوده عارض فانٍ لا يثبت على التحقيق.

لذلك، ذهب العارفون إلى أن وجود الكائنات معنوي لا حقيقي، وعلتهم في ذلك أن "الوجود" صفة أزلية من الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى، فلو قيل إن لغيره وجودا حقيقيا لوقعنا في "الإثْنَيْنِيَة" وأشركنا ذلك الغير معه في صفة من صفاته تلك، وهو ما يتعارض مع نصوص الوحي من قبيل قوله عز وجل: "ولم يكن له كفؤا أحد"، وقوله أيضا: "ليس كمثله شيء". ومن ثم، فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالوجود الحق، وما سواه إنما هو شهودٌ لآثار صفات الواجد في الموجود، إذ "كان الله ولم يكن شيء غيره" كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري، وهو الآن على ما كان عليه.

وقد عبر الشيخ الأكبر ابن العربي عن هذا المعنى في "الفتوحات"، قائلا: "الفناء هو اضمحلال ما سوى الحق سبحانه وتعالى، وذلك بأن لا ترى موجودا غيره، ولا وجودا إلا له، وما سواه هالك، لقوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه"، وقوله: "كل من عليها فان". وهو المعنى ذاته الذي أجمله العارف أبو مدين الغوث في "لاميته" المشهورة قائلا:

الله قل وذر الوجود وما حوى * إن كنتَ مرتاداً بلوغَ كمــالِ

فالكــلُّ دون اللَهِ إن حـــقّــقـتهُ * عدمٌ على التفصيل والإجمال

واعلَم بأنك والعــــــوالم كلَّها * لولاهُ في محو وفي اضمحلال

من لا وجودَ لذاتهِ من ذاتــــه * فوجـــــــودهُ لولاهُ عينُ محالِ

وعبر العارف عبد الغني النابلسي عن المعنى نفسه بمصطلح "وحدة الله" فقال:

إنما وحدة الوجود لدينا * وحدة الحق فافهموا ما نقولُ

وحدة الله وحدة لا سواها * شهدتها منا الكبار الفحول.

ويُفهم من هذا أن الكون في نظر أصحاب هذا المذهب ليس سوى تجلٍ من تجليات الواجِد المُوجد الأحدِ الفردِ الصَّمد، ومظهرا من مظاهر أسمائه وصفاته؛ فإذا اعتُبرت حقيقة تلك المظاهر والتجليات، لم يُرَ غير الله تعالى الذي به وجود كل موجود؛ فصفة القدرة، مثلا، إنما تستمد من اسمه "القادر"، وكذا صفة العظمة من اسمه "العظيم"، والرحمة من "الرحيم"، والخلق من "الخالق"، وهكذا سائر الأسماء والصفات. وقد لخص العارف سيدي أحمد بن عجيبة هذه الرؤية بشأن صفات الله تعالى في "رائيته"، قائلا:

فما ظهرت في الكون غير بهائها * وما احتجبت إلا لحجب سريرة

ولم يشذ بعض المعاصرين عن الانتصار إلى هذا المذهب، ومن بينهم الدكتور فريد الأنصاري الذي صرح بمضمونه في كتابه "مجالس القرآن"، حيث قال: "فكل موجود إنما وجوده تجلٍّ من تجليات رحمانيته تعالى، خَلقا وتقديرا ثم رعاية وتدبيرا، ولولا رحمانيته لكان عدما في عدم، فبالرحمانية خلق العالم، وبالرحمانية يقع تدبيره من لدن خالقه الرحمن، وبالرحمانية تتنزل الأرزاق على الخلق أجمعين (..)، وبالرحمانية تتصرف القدرة الإلهية في إصلاح شؤون الكون الممتد من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وصيانته ورعايته".

وقد أوضح المعنى نفسه بقوله: "مشاهدة نعم الرحمانية والرحمة من خلال تلقي أنوار الأسماء الحسنى، والاغتراف من كوثرها، وحمل النفس على الرحيل إلى منازلها، لتلقي تجلياتها، بدءا بما يتجلى على القلب من رحمانية الله، خالقا ورازقا ومحييا وقيوما، إلى ما يتجلى عليه من رحمته تعالى هاديا ونصيرا ثم شكورا".

وأجلى ما عبر عنه في هذا السياق قوله: "قد جمعنا قلوبنا عليك وحدك، وصفينا قصدنا خالصا لك وحدك، وفنينا عن شهود الشهوات والأهواء والأغيار، فلا التفات عن يمين أو شمال، إنا أقمنا وجوهنا لك فلا شيء أمامنا سواك". وهذا نص صريح في فنائه عن شهود السوى ونفيه الإثْنَيْنِيَة والغيرية من أمام بصره وناظره، بما يقتضيه من نفي وجود أي موجود مع الله سبحانه وتعالى. وهو المعنى نفسه الذي تقاطع فيه مع ما قاله الإمام الصوفي عبد الواحد بناني:

ولما فنى فنائي فلم أزل * أشاهد معنى الحق في كل وجهة.

وكذاك ما قاله الإمام الصوفي سيدي محمد الحراق:

فتراه في كل شيء تراه * هو الكل دائما ما أجلَّه.

وأيضا قول العارف أبو مدين الغوث:

فالعارفونَ فنوا ولمّا يشهدوا * شيئاً سوى المتكبر المتعال.

وجماع ما تقدم ولازمه، أن الدكتور فريد الأنصاري قد تبنى مذهب "وحدة الوجود" على نحو ظاهر شأنه شأن كبار العارفين من أئمة التصوف، ويبدو أن مرد ذلك تأثره بهم - إن لم نقل انخراطه في سلكهم - في أواخر حياته، وهو ما يظهر جليا في استعماله اصطلاحاتهم العرفانية ومفاهيمهم التزكوية في كتابه المذكور، مثل: كأس الذكر، الشُّرب، السقي، التلقي عن الله، السير في طريق المعرفة بالله، مدارج التعرف إلى الله، خوارق الروح وبوارقها، المدد الروحي، ريح الأشواق، التذوق الرباني، فناء النفس، أسرار الحقائق، المواجيد، الفناء التام .. إلى غير ذلك من مصطلحات أهل التصوف.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك