بقلم : د.إيمان الرازي
أستاذة جامعية..فاعلة سياسية
في عالم كرة القدم، حيث تتحكم الأضواء والمصالح واللوبيات في صناعة
النجوم وتوزيع الألقاب، يظل بعض اللاعبين أكبر من أن تحتجزهم مقاييس الجوائز أو أن
تختزلهم أرقام الإحصائيات. أولئك الذين يخطّون أسماءهم في ذاكرة الملاعب والقلوب
لا على لوائح الترشيحات، لكن يظلون راسخين في الوجدان الجماعي لعشاق اللعبة. أشرف
حكيمي واحد من هؤلاء. فهو ليس مجرد ظهير أيمن بنزعة هجومية، ولا هو جناح سريع يوصل
الكرات إلى مناطق الخصم، بل هو نموذج نادر في زمن التسليع: لاعب يلعب من أجل
الشرف، يركض من أجل الوطن، ويؤمن أن الانتماء ليس شعاراً بل موقف.
ولأننا في عصر تكثر فيه الحسابات وتتداخل فيه الاعتبارات، بات من
السهل أن تُظلَم الكفاءة إذا لم تحظَ بالرعاية الإعلامية أو لم تكن ضمن محميات
الأندية الكبيرة والاتحادات المؤثرة. ومع ذلك، فإن العدل لا يُقاس فقط بحجم
الجائزة، بل كذلك بوزن المبدأ. ولعل ما قيل: "ولو غير العالم رأيه فيه، لن
أفعل مهما حصل. الكرة الذهبية.. إنه الوحيد من يستحقها..!! إنه حكيمي أشرف"،
ليس مجرد انحياز عاطفي أو اندفاع مشجع، بل هو موقف أخلاقي يتحدى المنطق البارد
ويعيد تعريف القيمة الحقيقية للاعب الذي لا يساوم على كرامته.
في كل مرة يرتدي فيها حكيمي قميص المنتخب الوطني، نشاهد فيه روحا
تقاتل من أجل راية، وليس مجرد محترف يطلب مجدا شخصيا عابرا أو زائفا، وحين عانق
أمه بعد كل مباراة في كأس العالم، لم يكن يُمثل صورة فقط، بل كان يُجسد قصة شعب،
وكبرياء أمة. كان صوت المغرب العميق، صوت المهاجرين الذين بنوا عرقا فوق الأرصفة،
وكرامة فوق السُّخريَة. حكيمي ليس فقط ابن الضفة الأخرى، بل ابن المغرب الذي لا
يُقسم حسب الخرائط ولا يُقاس بالبُعد الجغرافي، بل بالمحبة الصادقة للراية
والتاريخ.
فهل تُقاس قيمة اللاعب بعدد الأهداف أم بحجم التضحية؟ هل تستحق الكرة
الذهبية من يسجل كثيراً ولو بلا انتماء، أم من يُجسد القيم الإنسانية والرياضية في
أبهى صورها؟ وهل يمكن لعدالة الجوائز أن تتجاهل مَن رفع رأس العرب والأفارقة في
محفل لم يكن يعترف قبل مونديال قطر إلا بالقوى الكروية التقليدية؟ لقد أعاد حكيمي
تعريف البطولة، لا بالبطولات التي تُحصى بالألقاب، بل بتلك التي تُحصى بالمواقف.
إن كرة القدم، في عمقها، ليست مجرد لعبة بل هي مرآة للمجتمع، وكلما
كانت المرآة صافية، كلما بدا فيها الوجدان أوضح. وما عكسته صورة حكيمي، سواء في
باريس سان جيرمان أو في الملاعب العالمية أو رفقة أسود الأطلس، هو أخلاق نادرة
وسلوك رياضي راقٍ، يندر أن نجده اليوم في عالم صار يُقايض كل شيء مقابل الصورة
والمصلحة. ومهما تلاعبت المؤسسات الرياضية بمعاييرها، فإن صورة اللاعب الملتزم تظل
أبلغ من خطاب رسمي وأصدق من صكوك الاعتراف.
لذلك، حين يُقال إن الكرة الذهبية من حقه، فالأمر لا يتعلق فقط بما
قدّمه من مستويات فنية مبهرة، بل بما مثّله من رمزية وطنية وأخلاقية. لقد كان
حكيمي في المونديال، وفي كل المباريات الحاسمة، مقاتلاً لا يكلّ، محارباً لا
ينهزم، وواجهة مشرقة لجيل يرفض الانبطاح ويصرّ على أن يُصنع المجد من العرق لا من
التلميع الإعلامي.
لكن حكيمي لا ينتظر الجائزة، ولا يقف عند حدود التقدير الرسمي. لأنه
يعلم أن القيمة الحقيقية ليست تلك التي تُمنح، بل تلك التي تُنتزع عن جدارة. وهو
لم يطلب الكرة الذهبية، بل فرض نفسه بحضوره ومواقفه. ومن لا يطلب شيئاً يكون أحق
بكل شيء. ومن لا يساوم على مبادئه يكون الأحق بأن يُحتذى. من لم يفرّط في انتمائه،
ولم ينحنِ أمام المال أو الضغط، يُكتب له الخلود حتى دون أن يتوج.
نحن لا نُنكر عظمة مَن تُمنح لهم الجوائز، لكننا نؤمن أن هناك من هو
أعظم من الجائزة نفسها. وحكيمي أحد هؤلاء. هو حكاية طفل الحي الشعبي الذي شق طريقه
رغم الحواجز، ولم ينسَ أصله رغم الأضواء. هو تذكار جميل بأن الرياضة ما زالت قادرة
على منحنا أبطالاً يشبهوننا، وأن الكرة ليست حكراً على الذين يملكون النفوذ، بل هي
أيضاً لنا.. نحن الذين نؤمن بالمستحيل ونحتفي بالمبدعين بصرف النظر عن موقف الفيفا
أو تعبير الصحف الكبرى.
ولو غير العالم رأيه فيه، لن نغير. لأنه ببساطة، لا أحد يُجبرنا أن نُحب من لا نشعر معه بالصدق، ولا أحد يستطيع أن يفرض علينا بطلنا. البطولات لا تُفرض، والحب لا يُشترى. لذلك، حكيمي يستحق الذهب.. لأنه من ذهب. والذهب لا يصدأ، حتى حين تحاول بعض المؤسسات أن تضعه جانباً.
الكرة الذهبية؟ ربما تُمنح لغيره. لكن في ضمائر الملايين، هي له.
وكفى.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك