بقلم: عبد الحق الريكي
ضد النسيان: أكتب لأحتفظ بما يتلاشى
كثيرًا ما أجد نفسي جالسًا أمام الصفحة البيضاء،
بهذا الإحساس الغريب: ممتلئ وفارغ في آنٍ معًا.
ممتلئ بالقصص، بالوجوه المنسية، بالصراخ الذي اختنق مع الزمن؛
وفارغ من الكلمات التي تليق لسردها كما تستحق.
في هذا الفضاء الهشّ بين المحو والذاكرة، أكتب.
لا للتسلية، ولا حتى للإبداع – بل لأتذكر.
لأقاوم النسيان، أو على الأقل، لأبطئ زحفه.
منذ فترة، بدأت ذاكرتي تخونني.
تتشقّق، تتخلى عني، وتخذلني.
أنسى أسماءً، أماكن، وجوهًا كانت قريبة حدّ الألم.
وأتساءل: ماذا سيبقى، حين تبدأ الكلمات نفسها في الرحيل؟
ما يدفعني للكتابة اليوم ليس مجرد حاجة أدبية،
بل هو فعل بقاء.
ثمة استعجال: في الحكي، في الشهادة، في التسمية.
وفي قلب هذا الاستعجال: الريف.
أرضي، جرحي، حكايتي.
الريف ليس مجرد منطقة جغرافية،
إنه ندبة حيّة في ذاكرة المغرب.
جهة تجاهلتها الرواية الرسمية،
وسكتت عنها، أو شيطنتها.
لكن خلف ضجيج الانتفاضات،
وخلف صور الاحتجاج،
ثمة قصص أعمق:
عن عائلات اقتُلعت من جذورها،
عن منافي، عن ثورات خُنقت،
عن أحلام تحطّمت.
منها قصة جدي، موح الحاج أفقير،
الذي مات بصمت، ودُفن تحت إسمنت النسيان في تطوان،
ما بين 1947 و1949.
يُقال إنه هرب سباحة من باخرة حربية فرانكية سنة 1936،
رافضًا حربًا لا يؤمن بها.
ويُقال إنه حاول العودة إلى أجدير،
فأُلقي عليه القبض، وعُذّب، ثم أُعدم.
لا قبر، لا وثيقة رسمية، لا تكريم.
فقط اسم محرف: "موح الحاج أفقير"،
كما كتبته الإدارة الاستعمارية.
اسم أحاول اليوم أن أجعله يتكلم،
أن أبحث عنه في الأرشيف الإسباني،
وفي ذاكرة المتفرقين ممن عاشوا تلك السنوات السوداء.
لم يحظ جدي بنقشٍ على حجر،
أرغب أن تكون كلماتي تلك الحجرة الغائبة.
لا شاهدة قبر، بل حجر ذاكرة.
هذه المعركة الشخصية،
تتلاقى مع نضالات جماعية.
لأن حكايتي العائلية جزء من سياق سياسي أوسع:
النضال من أجل الاعتراف بذاكرة الريف،
بجرائم الماضي،
وبالعدالة للمنسيين.
لسنا بصدد إثارة أحقاد،
بل تصحيح علاقتنا بالتاريخ.
فالمجتمع الذي ينسى موتاه،
ويزور ماضيه،
يحكم على نفسه بتكرار الجراح ذاتها.
الكتابة أيضًا رفضٌ للصمت.
ذاك الذي يُفرض علينا،
أو الذي نفرضه نحن على أنفسنا.
طويلاً ترددتُ في البوح:
عن عائلتي، عن ألمي، عن هشاشتي.
بدافع الحياء، أو الخوف، أو التعب.
لكنني اليوم أعي أن الصمت محو،
وأن كل قصة مسكوت عنها،
وكل ذكرى مكبوتة،
تزيد من صلابة إسمنت الكذب واللامبالاة.
لهذا بدأت هذا المشروع:
أجمع مقالاتي،
وفتات ذاكرتي،
وتأملاتي السياسية والحميمية،
في كتاب بعنوان:
«
الذاكرة والريف والسياسة ».
ليس كتابًا كغيره.
بل محاولة لإعادة البناء،
حجرًا بعد حجر،
وكلمة بعد كلمة،
لذاكرة مهدمة.
لا أبحث عن "الحقيقة" المطلقة،
بل عن حقيقتي أنا:
حقيقة رجل من الريف،
ولد بعد الاستعمار،
وطُبع بالانتفاضات والصمت.
أدرك أنني لا أكتب وحدي،
بل إن مئات، وربما آلاف من أبناء الريف،
يحملون في قلوبهم قصصًا مشابهة:
آباء مفقودون،
نضالات منسية،
وجراح بلا قبور.
أودّ أن يكون هذا الكتاب كتابهم أيضًا.
فضاءً للاعتراف والمقاومة.
يساعدني الذكاء الاصطناعي أحيانًا
في ترتيب أفكاري،
وتجاوز عراقيل صحتي،
لكن ما أمليه عليه
ينبع من أعمق مكان فيّ:
من ذاكرة مثقوبة،
ومن ألم دفين،
ومن حبّ عظيم للريف
ولأرواح من قضوا فيه.
الكتابة ضد النسيان ليست فقط فعلًا أدبيًا،
بل هي فعل وفاء.
لجدي. لأمي وأبي المتوفى. لأرضي. ولنفسي.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك