أنتلجنسيا المغرب:لبنى مطرفي
تُعيد ساحات القتال المعاصرة تعريف البقاء العملياتي؛ لم تعد المدرعات مجرد هياكل فولاذية بل منصات قتالية رقميّة معقّدة تكاد تنافس أحدث الطائرات المقاتلة في التكنولوجيا والتكلفة. في زمن تُحسم فيه المعارك بالبيانات بقدر ما تُحسم بالذخيرة، تتحوّل أسعار أغلى المركبات المدرعة إلى مؤشر ليس على وزن الفولاذ فحسب، بل على استثمار استراتيجي في أنظمة النجاة: أجهزة استشعار متقدمة، أنظمة اتصال مشفّرة، دفاعات نشطة، وبرمجيات تحديث مستمر — كل ذلك يفرض عبئًا اقتصاديًا هائلاً على ميزانيات الدفاع. التكلفة الفلكية اليوم ليست ثمنًا للحماية فحسب، بل إعادة تعريف للأمن القومي نفسه.
تتصدر المنصات الأوروبية والمنتجات المتطوّرة دولًا كثيرة على لائحة الأغلى، بدافع التركيز على الأنظمة المعيارية والمرونة التكتيكية؛ فمثلاً منصة “بوكسر” المطورة في نسخها المتقدمة تُسوق كمنظومة إلكترونية متكاملة وتصل تكلفة بعض نسخها إلى نحو 10 ملايين دولار، إذ تحوي مستشعرات دقيقة، مدفعًا آليًا عيار 30 ملم، وصواريخ قادرة على مواجهة الدروع — ما يجعلها مركز قيادة متنقّلًا وليس ناقلة جنود تقليدية. كذلك، تأتي ناقلة الجنود الإسرائيلية “إيتان” والتي تُقدَّر تكلفة وحدتها بنحو 6.5 مليون دولار، كحصن مدولب صُمم من دروس القتال الحضري، مزوّدًا بمنظومة حماية نشطة ودروع معيارية ومحرك قوي يعزز قابليته للقتال في بيئات مكثفة. في نفس الفئة المرنة، تبرز الفنلندية “باتريا AMV XP” بسعر يقارب 6 ملايين دولار، كمنصة معيارية قابلة للتحديث تؤدي أدوارًا متعددة من نقل المشاة إلى حمل منظومات صاروخية وتقدّم حماية مطوّرة ضد الألغام والعبوات الناسفة.
على الجهة الأخرى من الخريطة، تُظهر روسيا طرازًا متطورًا مثل “بوميرانغ” الذي يقارب سعره 5.5 مليون دولار، مركبة مشاة قتالية ببرج غير مأهول ومدفع 30 ملم وقدرات برمائية وصواريخ مضادة للدبابات، ما يضعها ضمن أدوات الحروب الحديثة. الولايات المتحدة تقدّم بدورها مركبات متطوّرة مثل “سترايكر دراغون” بقيمة تقارب 4.9 مليون دولار، مزوّدة بأحدث أنظمة الاستشعار والاتصال وبرجًا عن بعد لعيار 30 ملم وهندسة معيارية تسمح بترقيات سريعة. النسخ المطوّرة من منصات خفيفة مثل LAV 6.0 المشتركة بين كندا والولايات المتحدة تصل تكلفتها إلى نحو 3 ملايين دولار لكل وحدة وتأتي مزودة بأنظمة رقمية متقدمة، هياكل V-شيب للمقاومة ضد العبوات ومعدات أسلحة عن بُعد، ما يجعلها “عاقلة” بفضل المستشعرات والاتصال الشبكي.
ولا تقتصر الكلفة العالية على القوى الكبرى؛ فالصناعات الصاعدة والمنتجون الإقليميون يقدّمون حلولًا متعددة المهام بتكاليف كبيرة نسبيًا: من “أوتوكار أرما” التركية، القابلة للتكييف كحاملة مشاة أو مركبة قيادة أو منصة مضادة للطائرات وتقدّر تكلفة وحدتها بنحو 1.5 مليون دولار، إلى سلسلة “بيرانها” السويسرية بمعايير 6×6 أو 8×8 وبمتوسط سعر يقارب 2 مليون دولار، ما يعكس توجّهًا نحو مركبة لكل مهمة مزوّدة بقدرات برمائية وحماية عدة طبقات وتكوين معياري سريع التبديل.
هذه التحولات تفرض السؤال الحاد على صانعي القرار: إلى أي حدّ تستديم هذه التكاليف؟ هل التفوّق التكنولوجي اللحظي يبرر العبء المالي طويل الأجل على ميزانيات الدفاع؟ الإجابة ليست بسيطة؛ النظام المعياري وإمكانية التحديث قد يخففان من بعض الضغوط بالمدى المتوسط، لكن الاعتماد على حزمة متكاملة من أجهزة الاستشعار والاتصالات والدفاعات النشطة والبرمجيات يخلق دورة إنفاق مستمرة تشبه إلى حدّ كبير صناعة الطيران — تحديثات، تكامل أنظمة، وصيانة متخصصة — وكلها خطوط إنفاق ثابتة.
أمام هذا الواقع، تبدو المدرعات اليوم كـ”قلاع ذكية” ومراكز قيادة متنقلة تحمي الجندي عبر شبكة من التكنولوجيا أكثر مما تحميه عبر سماكة الدرع وحدها. لذلك يجب أن يشمل النقاش الاستراتيجي المستقبلي ليس فقط المواصفات التكتيكية لمركبة أو قدراتها القتالية، بل أيضًا استدامة ميزانيتها، سلاسل التوريد لتقنياتها الحساسة، وسياسات الصيانة والتهيئة التي تحوّل هذه المنصات إلى أعباء طويلة الأمد إذا لم تُدر بذكاء. في النهاية، ثمن البقاء في ميادين القتال صار يقاس اليوم بقيمة التكنولوجيا التي تحملها المركبة، وليس بصلابة معدنها فقط — وهذا يجعل السؤال عن جدوى الإنفاق والتوازن بين حماية الجنود والحفاظ على قدرة الدول المالية أكبر وأكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك