
بقلم : محمد بلمو
مساحات رحبة للفكر والسؤال والحوار والاختلاف المرح
عندما يتحدث
عزيز ورود، مدير مهرجان "ثويزا" المتوسطي للثقافة الأمازيغية بطنجة، عن
الدورة الحالية، فإنه يبرز الرهان على "الفكر كجوهر للعمل الثقافي". لإن
المهرجان يمثل مساحة حرة للتفكير والاختلاف، ويفتح أبوابًا لطرح الأسئلة العميقة
التي تواجه الإنسان المعاصر.
ما يميز
مهرجان ثويزا عن غيره من المهرجانات هو ما تابعته في الدورة السابقة، وأساسًا في
الدورة الحالية، حيث أن المضمون الفكري ونزعة السؤال والحوار يشكلان شرطًا لإبداع مواضيع وقضايا ذات راهنية.
فعلى مدى 19 دورة، نظم المهرجان 146 فعالية، من الندوات والمحاضرات والملتقيات،
شارك فيها 1007 مفكرين، مؤرخين، فلاسفة، أدباء، نقاد، باحثين وإعلاميين.
دورة متميزة
ولقاءات متنوعة
شهدت الدورة
ال19 تنظيم ثمان لقاءات كانت كفيلة بتحقيق جو من الحوار وفتح المجال للأصوات
المتعددة من داخل المغرب وخارجه، مما يعزز قيم التعايش والانفتاح كما خطط لذلك
منظمو المهرجان.
أدونيس في عشق
لطنجة
ومع أن الشاعر
السوري أدونيس لم يتمكن من حضور الندوة الافتتاحية بسبب طارئ، إلا أن قصيدته
"دفتر مقابسات في أحوال طنجيس ومقاماتها" التي تم توزيعها مجانًا على
الحضور في كتاب انيق، جعلت من اللقاء الذي عرف حضور عمدة المدينة، لحظة ثقافية
وإبداعية راقية. لان قصيدته استحضرت روح طنجة وفتحت شهية الجمهور لما سيتلو من
ندوات.
محمد شكري:
حضور دائم
كان فضاء مسرح رياض السلطان بحيويته المعهودة قبلة لمحبي الكاتب العالمي محمد شكري خلال الملتقى السابع عشر لتخليد أدبه. تم تناول تجربته بأسلوب بعيد عن البرودة الأكاديمية، مما جعل الملتقى دافئًا ومنعشًا، اداره الشاعر عبد اللطيف بنيحيى الذي أضفى عليه الكثير من الشغف والإبداع.
في هذا
الملتقى، قدم كل من مصطفى اقلعي وربيعة ريحان وادريس علوش واكرام عبدي، صورا
ولقطات من تجربة علاقتهم بالراحل محمد شكري وادبه، باساليب وطرق ابتعدت كثيرا
(وهذا مهم جدا)، عن برودة التناول الاكاديمي الجاف، بحيث اصبغ كل منهم من خبرته
الادبية في جعل الملتقى دافئا ومنعشا
وخفيفا مثل ظل محمد شكري، بادارة احترافية للشاعر عبد اللطيف بنيحيى الذي ادار
اللقاء بشغف وابداع ايضا، من خلال توجيهاته وتدخلاته وقفشاته، وهو يقول:
"الثقافة التي لا تزرع فرحا هي ثقافة منقوصة"، لذلك ايضا فتح المجال
لصديق شكري وبول بولس، الكاتب محمد مرابط، لتقديم بعض من ذكرياته مع الاديب
الراحل.
مفاجآت دروب
طنجة القديمة
الروح التي
خيمت على ملتقى محمد شكري برياض السلطان حضرت في الجولة التي قادها الشاعر عبد
اللطيف بنيحيى بين أزقة وساحات مدينة طنجة القديمة. كانت الجولة غنية بالتاريخ
والذكريات، ما ذكرني بدروس السوسيولوجيا حول المدن القديمة التي تلقيناها على
استاذنا عبد الصمد الديالمي بجامعة فاس قبل اربعة عقود. ففي ازقة طنجة العامرة،
تنقلنا من متاهة
الى مفاجأة
ومن مفاجاة الى دهشة، بعكس المدن الجديدة، التي تفتقر إلى
الروح والتنوع، وتتغول فيها المربعات والميتطيلات الاسمنتية المستنسخة من بعضها.
طنجة
واللامعنلوجيا
سحر طنجة لا حدود له؛ فهي واحدة من الأماكن الاستثنائية في العالم. هذه المدينة التي أنجبت أشهر كاتب مغربي، محمد شكري، الذي ترُجمت رواياته إلى العديد من اللغات، محمد شكري الذي عاش فيها مع المشردين والمهمشين حياة الفقر، الا ان ذلك لم يمنعه من متابعة حلمه. هي المدينة نفسها التي ألهمت الشاعر السوري الشهير أدونيس، الذي كتب قصيدة في مدحها لدى زيارته الأولى بدعوة من مهرجان ثويزا، وكانت تلك القصيدة مفتتح المهرجان وأحد درره.
وفي هذه الدورة كءلك ألهمت سوسيولوجيًا تونسيًا بارزًا،
هو الطاهر لبيب، ليبدع مفهومًا جديدًا في ندوة تحت عنوان "التفكير في
اللامعنى.. محاولة لفهم ما يجري". الطاهر لبيب، وهو يتناول عالم اليوم، اقترح
مفهوم "طنجويا" لفهم واقع الحال، موضحًا أن "اللامعنلوجيا"
التي اقترحها تبررها هيمنة اللامعنى على حياتنا المعاصرة، خصوصًا عبر الشبكة
العنكبوتية، مما يستلزم وجود علم خاص له مثلما هناك علم للمعنى.
هنا صوت
مغاربة العالم
من الواضح أن
اختيار مواضيع التفكير والحوار والنقاش من طرف إدارة المهرجان في كل دورة يعكس
رغبتها القوية في الجمع بين الراهنية والشغف المعرفي، لتوليد الأسئلة المطلوبة
وتفجير النقاش العميق الذي يحقق المتعة والفائدة.
لذلك ركزت
ندوة أخرى على "الحاجة إلى كفاءات مغاربة العالم"، موضوع ذو راهنية
وجدوى. تأكدت أهميته من خلال مداخلات كل من أحمد أبو طالب، السياسي الاشتراكي
والعمدة السابق لمدينة أمستردام من أصول مغربية، بالإضافة إلى عدد من الكفاءات
المختلفة من مغاربة العالم مثل فاطمة زيبوح، سامي شريشرة، عبد القادر بنعلي، ومحمد
أمزيان. بإدارة الصحفي محجوب بنسعلي، وخلصت العروض والنقاشات إلى معطيات غنية،
تمحورت حول تجارب هذه الكفاءات في علاقة المهاجرين المغاربة بالدول المضيفة،
بالإضافة إلى القصور في تعامل السياسات الحكومية المغربية معها رغم كل المجهودات
التب تم القيام بها، قبل تقديم بعض الاقتراحات لتحقيق استفادة وطنية من خبراتهم
وتجاربهم الغنية.
أقصى درجات الجدال
تأتي ندوة
"حدود أعمال النظر العقلي في فهم وتأويل التراث" لتشكل لحظة جدال قوي
لما يثيره الموضوع من حساسية. لقد اختار المنظمون، بدقتهم المعهودة، هذا الموضوع
الخلافي، إذ أن نصوص التراث الإسلامي وما تتضمنه من أقوال وأحداث تحمل معاني
ودلالات لا تُعطى للقارئ بسهولة.
ردود الباحثين
في الندوة على سؤال "إلى أي حد يمكن ركوب مغامرة العقل البشري لفهم نصوص
التراث الإسلامي؟" كانت مثيرة. الفيلسوف المغربي محمد المصباحي حاول التشبث
بالتحليل الرشدي، متبنيًا نهجًا هادئًا في طرح آرائه، في حين لم يتردد الباحث
التونسي يوسف الصديق في التعبير عن اعتقاده بأن مصدر الإسلام الحقيقي هو القرآن،
وأن ما عدا ذلك مجرد كذب.
هذا الاختلاف
في وجهتي النظر رفع من درجة الجدال والحوار، لكنه لم يبلغ ما اعتدناه من تشنج
وتعصب في مثل هذه المواقف. فالجمهور الذي كان متابعًا ومنخرطًا في النقاش، كان
يهمهه ضاحكًا بين الفينة والأخرى، ليقلل من تحول المؤرخ محمد جبرون، الذي كان يعمل
كمسير محايد للندوة، إلى مُدافع مفرط عن رأيه في مواجهة ما يدافع عنه يوسف الصديق
باستماتة.
ملتقى التجارب
الأدبية
تترسخ تقاليد
المهرجان الفكرية والإبداعية سنة بعد أخرى، حيث كان موعد "ملتقى التجارب
الأدبية الجديدة" في هذه الدورة منصة للحوار بين رواد الكتابات الإبداعية
الذين يسعون لتجاوز المألوف واقتفاء أثر الدروب غير المطروقة في الكتابة. استضاف
الملتقى الروائي العراقي صامويل شمعون، الذي تحدث عن تجربته الإبداعية والحياتية
المليئة بالمعاناة والمغامرات، وأبرزها روايته/سيرته "عراقي في باريس".
تضمن تقاليد
هذا الملتقى السنوي مداخلة من قبل الضيف، ومن ثم منح الكلمة لمجموعة من المبدعين
الشباب الذين انتقتهم الجمعية المنظمة. تفاعل جميع المشاركين في النقاش، حيث طرح
كل واحد منهم سؤالاً على صامويل شمعون في نهاية تدخله. وشارك في هذا التفاعل
الأدبي كل من هدى الشماشي، هجر طرايش، بديعة أد حسينا، محمد الهاشمي، هشام فؤاد
كوغلت، صالح آيت صالح، محمد المودن، وياسين كني. كان الملتقى فرصة نادرة لمعرفة
صامويل شمعون والاستماع إلى تجارب طاقات إبداعية مغربية شابة وطموحة.
الإنسان هو الحل
هذا هو عنوان
الندوة الختامية للدورة، التي اختارت لها شعارًا معبرًا وعميقًا: "نحو الغد
الذي يسمى الإنسان". اعتبرت إدارة المهرجان أن هذه الندوة تشكل مناسبة
لمناقشة الأسئلة المصيرية، كختام لفعاليات مهرجان ثويزا بطنجة.
في هذه
الندوة، شارك كل من الطاهر لبيب، محمد المصباحي، أحمد عصيد، ومحمد جبرون في محاولة
لتفكيك السؤال الإشكالي: "هل يمكن للإنسان أن يكون هو الحل؟"، هو (الي
الانسان) الذي يعتبر في العديد من السياقات هو المشكلة. لقد قام المتدخلون بإضاءة
عتمات هذا السؤال/الشعار انطلاقًا من مرجعياتهم وتخصصاتهم وتجاربهم المختلفة.
سحر مهرجان
ثويزا
طيلة ندوات
المهرجان، تميز الجمهور بكثافته وانضباطه ومشاركته. فقد حضر في كل ندوة ما لا يقل
عن 300 شخص من مختلف الفئات والانشغالات. وشارك الجمهور في النقاش بشكلٍ لافت، حيث
وصل عدد المتدخلين في بعض الأحيان إلى أكثر من عشرة عبر لائحتين. كما تميزت جميع
الندوات بتعدد لغوي غني، مع استخدام العربية والأمازيغية والإسبانية على الأقل.
فالملتقى
السابع عشر لتخليد أدب الكاتب العالمي محمد شكري عرفةاهتمامًا خاصاً من الإسبان
أيضًا، حيث قدم مصطفى أقلعي مداخلته ثلاثية اللغة، حيث تحدث بالعربية،
والأمازيغية، والإسبانية، مما ساهم في تسهيل التواصل مع الحضور المتعدد الالسن.
من جهة اخرى،
تم اختيار موقع معارض المهرجان بحكمة، حيث يقع وسط المدينة، مما ساعد في تعزيز
التفاعل والحضور في اروقة الكتب والمنتجات
التقليدية الأمازيغية، وهو ما يعكس النجاح الواضح في تحقيق أهداف المنظمين.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك