أنتلجنسيا المغرب:أحمد الهيلالي
منذ سبعينيات القرن الماضي، ظل مشروع النفق البحري الرابط بين المغرب وإسبانيا عبر مضيق جبل طارق حلمًا يراود ساسة ومهندسين في الضفتين.
غير أن تعقيدات جيولوجية، وحسابات سياسية، وتكاليف باهظة جعلت هذا المشروع الضخم يدخل طي النسيان لعقود.
لكن، ومع التحولات الجيوستراتيجية التي يعرفها العالم، عاد المشروع بقوة إلى واجهة النقاش والتنفيذ، مدفوعًا برؤية أوروبية مغاربية جديدة تسعى إلى تعميق التكامل القاري وربط إفريقيا بأوروبا عبر بنية تحتية غير مسبوقة.
دعم أوروبي غير مسبوق وتمويل مشترك
التحول الأبرز في مسار المشروع جاء بدعم مباشر من الاتحاد الأوروبي، الذي أدرج النفق في أولوياته الاستراتيجية لربط شمال إفريقيا بجنوب أوروبا ضمن مشروع “Connecting Europe Facility”، وهو ما منح المشروع دفعة مالية ودبلوماسية قوية. ووفق مصادر تقنية، فقد تم تخصيص نحو 500 مليون يورو كتمويل أولي لدراسات الجدوى وتطوير البنية التقنية والهندسية، بشراكة بين شركتي “SECEGSA” الإسبانية و“SNED” المغربية.
ويأتي هذا التمويل بعد إدراج المشروع ضمن المخطط الأوروبي للبنية التحتية العابرة للحدود، خصوصًا مع تزايد التحديات البيئية التي تفرض خفض انبعاثات النقل الجوي والبحري، لصالح وسائل نقل برية نظيفة ومندمجة.
مسار النفق: من طنجة إلى طريفة عبر أعماق البحر
وفق التصور الهندسي المُحدّث، سيمتد النفق بين منطقة "بليونش" قرب طنجة و"طريفة" بإقليم قادش الإسباني، على مسافة تقارب 38 كلم، منها نحو 27 كلم تحت سطح البحر. وسيتم تشييد نفقين متوازيين لخط السكك الحديدية، مع نفق ثالث للخدمات والصيانة والطوارئ.
ويمثل هذا المسار تحديًا هندسيًا كبيرًا بالنظر إلى الطابع الجيولوجي المعقد لقاع مضيق جبل طارق، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط، وتحدث فيه حركات مد وجزر قوية، بالإضافة إلى طبقات أرضية غير مستقرة في بعض النقاط.
دراسات ميدانية متقدمة وجاهزية تقنية
في مارس 2025، أطلقت فرق تقنية مشتركة مغربية وإسبانية عمليات مسح زلزالي وبيئي لقاع البحر باستخدام روبوتات تحت مائية وتقنيات تصوير ثلاثي الأبعاد، للتحقق من استقرار المسار المقترح. كما تم تركيب أجهزة استشعار لقياس الضغوط المائية والحركات التكتونية على مدى ستة أشهر متواصلة.
وفي هذا السياق، أكدت شركة “SECEGSA” أن المعطيات الأولية تشير إلى "إمكانية تنفيذ النفق باستعمال تكنولوجيا الحفر الآلي TBM، كما تم في نفق بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا". كما أعلنت الشركة عن توقيع اتفاقيات تعاون مع شركات يابانية وألمانية متخصصة في الأنفاق البحرية فائقة العمق.
المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية للمغرب وإسبانيا
يرى خبراء النقل والاقتصاد أن هذا المشروع الضخم سيغير موازين الربط الإقليمي، وسيمكّن من تقليص وقت وتكلفة تنقل الأفراد والبضائع بين أوروبا وإفريقيا. وتقدّر الدراسات أن النفق سيمكن من نقل أزيد من 10 ملايين راكب و8 ملايين طن من البضائع سنويًا في المرحلة الأولى.
وبالنسبة للمغرب، يُعد المشروع فرصة استراتيجية لترسيخ دوره كمحور لوجيستي دولي، وربط ميناء طنجة المتوسط مباشرة بشبكات السكك الحديدية الأوروبية. كما أنه يعزز خياراته في إطار تنويع شركائه وتنمية أقاليم الشمال، خصوصًا تطوان وطنجة والفنيدق.
أما بالنسبة لإسبانيا، فإن المشروع سيسمح بتنشيط مناطق الجنوب الإسباني اقتصاديا، ويدعم حضور مدريد في القارة الإفريقية عبر بوابة الرباط، وهو ما يفسّر عودة الحماسة السياسية الإسبانية تجاه المشروع، بعد سنوات من الفتور.
التحديات البيئية والأمنية
رغم الزخم الذي يعرفه المشروع، لا تزال هناك أصوات تحذر من مخاطره البيئية، خصوصًا على النظام البحري الدقيق في مضيق جبل طارق، والذي يُعد من أغنى النقاط البيئية البحرية في العالم. وقد تعهدت الشركتان المشرفتان بإجراء دراسة تأثير بيئي معمقة، تشمل تقييم آثار الأشغال والاهتزازات على الأحياء البحرية والهجرة الموسمية للثدييات البحرية.
كما يُطرح تحدٍ أمني يتعلق بتأمين هذا الممر الحيوي من المخاطر الإرهابية أو الهجمات السيبرانية، وهو ما يتطلب منظومة أمنية متعددة المستويات والتنسيق بين أجهزة الأمن والدفاع في البلدين.
متى يبدأ التنفيذ الفعلي؟
رغم التقدم الملحوظ، فإن المشروع ما زال في طور الدراسات التقنية والبيئية، وتنتظر الحكومتان المغربية والإسبانية نهاية 2025 لتقييم التقارير النهائية واتخاذ القرار بشأن انطلاق الأشغال.
ووفق التقديرات الحالية، قد تبدأ عمليات الحفر الأولى في أواخر 2026، على أن تستمر الأشغال من 8 إلى 10 سنوات، في حال تجاوز العراقيل التقنية والمالية المتوقعة. وقد تصل الكلفة الإجمالية للمشروع إلى 10 مليارات دولار.
مشروع القرن بين الحلم والواقع
بين الحماس الرسمي والاحتياطات الواقعية، يبدو أن النفق البحري بين المغرب وإسبانيا دخل مرحلة جديدة من الجدية. وإذا ما تم تنفيذه بنجاح، فإنه سيشكل إنجازًا هندسيًا فريدًا في القرن الحادي والعشرين، وسيُحدث تحولا جيوسياسيا في العلاقة بين أوروبا وإفريقيا، ويضع المغرب في قلب المعادلة اللوجستية العالمية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك