أنتلجنسيا المغرب:أحمد الهيلالي
في نسخته الثانية الصادرة لعام 2025، سلّط تقرير “باروميتر البيانات العالمي” الضوء على صورة معقدة للبنى التحتية والسياسات المتعلقة بالبيانات في المغرب، حيث تتداخل المؤشرات الإيجابية في مجال التحول الرقمي مع اختلالات صارخة تمسّ مبدأ الشفافية وتكافؤ الوصول إلى المعلومة، وخاصة على مستوى التعدد اللغوي والعدالة المعرفية.
التقرير، الصادر عن مؤسسة دولية مستقلة متخصصة في قياس نضج سياسات البيانات حول العالم، صنّف المغرب ضمن الفئة المتوسطة من حيث القدرات الرقمية وحكامة البيانات. وارتكز هذا التصنيف على مؤشر مركّب يضم 14 معياراً موزعة على أربعة محاور رئيسية تشمل البنى التحتية، والسياسات العامة، والتشريعات، ومستوى الشفافية والانفتاح. وقد حصل المغرب على نقطة تتراوح بين 31.55 و48.69، ما يضعه في موقع متوسط من حيث النضج الرقمي والإداري.
ورغم ما وصفه التقرير بـ"الإرادة السياسية الظاهرة والدعم التشريعي الملحوظ"، فإنه انتقد ضعف الترجمة الفعلية لهذه الإرادة إلى إجراءات ملموسة في ميدان نشر البيانات، خصوصاً ما يتعلق بإدماج اللغات الرسمية للمملكة في آليات النشر العمومي للمعطيات.
في هذا السياق، أشار التقرير إلى أن المغرب حقق قفزة نوعية في البنى التحتية الرقمية، حيث تجاوز معدل الولوج إلى الإنترنت 92.2% في بداية عام 2025، وهو إنجاز يضع المملكة ضمن النماذج الناجحة إقليمياً في توسيع قاعدة الشمول الرقمي وتقليص الفجوة الرقمية بين الحواضر والمناطق الهامشية. ومع ذلك، فإن هذا التوسع لا يوازيه تقدم في جعل هذه البيانات متاحة لجميع المواطنين، بسبب استمرار احتكار اللغات الرسمية للبيانات العمومية.
فمنذ ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور 2011، وإصدار القانون التنظيمي رقم 26.16 لسنة 2019 لتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، انتظر المغاربة خطوات عملية لدمج هذه اللغة في الحياة الإدارية والعمومية، ومنها منصات البيانات العامة. غير أن التقرير يؤكد أن هذا المسار لا يزال متعثراً، حيث تُنشر معظم البيانات الرسمية إما بالعربية أو الفرنسية، ويتم تجاهل الأمازيغية بشكل ممنهج، مما يخلق فجوة معرفية تضر بحقوق فئة عريضة من المواطنين، خاصة في المناطق الجبلية والريفية.
ولفت التقرير إلى أن غياب تعددية لغوية حقيقية في نشر البيانات لا يعكس فقط اختلالات في السياسات العمومية، بل يؤثر بشكل مباشر على مشاركة المواطنين في النقاش العام، ويحدّ من ولوجهم إلى الخدمات التي تستند على المعطيات المفتوحة، سواء تعلق الأمر بالصحة أو التعليم أو التخطيط المجالي أو دعم الفلاحة والتنمية المحلية.
وتبرز المفارقة المؤلمة في أن المغرب، الذي يستثمر منذ سنوات في "التحول الرقمي" عبر برامج وطنية ضخمة، من بينها "المغرب الرقمي" و"الحكومة المنفتحة"، لا يزال عاجزاً عن تكييف منظومة البيانات مع التعدد اللغوي الوطني، ما يطرح تساؤلات حول جدوى هذا التحول إذا ظلّ مقصوراً على النخب الحضرية المتعلمة بالفرنسية والعربية فقط.
كما شدد التقرير على أن تجاوز هذه الإشكالية يتطلب إرادة سياسية فعلية تتجاوز الخطاب، ووضع سياسات واضحة لنشر المعطيات باللغتين الرسميتين، العربية والأمازيغية، فضلاً عن تعزيز إمكانيات الترجمة الفورية والواجهات المتعددة اللغات للمنصات الرقمية. فالديمقراطية الرقمية، بحسب التقرير، لا تكتمل إلا بإتاحة المعلومة لكل فرد، بلغته التي يفهمها، وبأسلوب يراعي سياقه الاجتماعي والثقافي.
تقرير “باروميتر البيانات العالمي” لا يحمل فقط مؤشرات رقمية باردة، بل يُلقي حجراً في بركة النقاش العمومي حول العدالة الرقمية والمعرفية في المغرب، ويطرح سؤالاً جوهرياً: ما جدوى البنية الرقمية المتقدمة إذا كانت لا تتكلم لغة كل المواطنين؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك