
أنتلجنسيا المغرب:عن فايننشال تايمز(رنا فوروهار)
انقبض قلبي منذ أيام عندما قرأت عن دراسة أجراها «جيه بي مورغان تشيس» تبحث في إمكانية إقراض العملاء مقابل حيازاتهم من العملات المشفرة.
حدث ذلك رغم أني أدرك، كما الجميع، أن هذه الأصول ستجد طريقها عاجلاً أو آجلاً إلى الاقتصاد الحقيقي.
وشهدت «البتكوين»، وهي أحد أبرز الأصول الرقمية التي قد تستخدم كضمان للإقراض، تقلبات تفوق بأربعة أضعاف ما شهدته المؤشرات الكبرى منذ عام 2020.
كما يقول البعض إن هذه العملة متهمة بتمويل الإرهاب، ولم أجد حتى اليوم ما يدفعني للاعتقاد بأنها أكثر من مجرد أداة في أيدي المضاربين والمجرمين. لكن ذلك لم يعد مهماً ما دام كبار المانحين السياسيين من أبرز الداعمين لها.
وأنفقت جماعات الضغط المعنية بالأصول المشفرة خلال السنوات الماضية عشرات الملايين من الدولارات لدعم سياسيين، ليس فقط من الجمهوريين، بل من الديمقراطيين أيضاً.
وتوجت هذه الجهود أخيراً بتمرير «قانون جينيوس». كما يتوقع أن تقر تشريعات إضافية توسع نطاق تغطية الأصول المشفرة في وقت لاحق من هذا العام.
وأخشى أن يؤدي هذا المسار، ليس إلى أزمة مالية جديدة فحسب، بل إلى موجة من الشعبوية السياسية والاضطرابات التي قد تعصف بالمشهد الأمريكي برمته.
كما يذكرني هذا كله بما حدث في عام 2000، حينما اندفع المدافعون عن المشتقات المالية المتداولة خارج البورصة إلى واشنطن، طالبين تنظيم هذه المشتقات بصورة مناسبة حتى يتسنى لهم تقديم «هبة الابتكار المالي» للعالم.
لكن ما حصلنا عليه في نهاية الأمر كان زيادة بسبع مرات في حجم عقود مبادلة مخاطر الائتمان غير الخاضعة تماماً للضوابط التنظيمية، وقد أسفر ذلك في النهاية عن الأزمة المالية العالمية الكبرى في عام 2008.
والآن، عليك أن تنظر إلى توقعات سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأمريكي، بنمو قيمة سوق العملات المستقرة 10 مرات على مدى الأعوام القليلة المقبلة، من نحو 200 مليار دولار إلى تريليوني دولار، بل وستكون عنصراً في كل شيء.
وبحسب ما قالت إليزابيث وارين، العضوة الديمقراطية البارزة في اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ، الأسبوع الماضي: «لقد شاهدنا هذا الامر من قبل»، فيما تقول مجموعات الضغط «رجاء! اخضعونا للقواعد التنظيمية»، لأنهم يرغبون في الحصول على مباركة الحكومة بتأكيدها أنها استثمارات آمنة، بينما يدعم الساسة من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي تخفيف القيود التنظيمية.
ويمكنك بكل تأكيد رسم خطوط متشابهة بوضوح بين تخفيف القيود عن المشتقات المالية في عام 2000، والتخفيف واسع النطاق للقيود التنظيمية في عهد كلينتون الذي تسبب في تآكل الحواجز بين التداول والإقراض، وحتى إضعاف قانون «دود-فرانك» للقواعد التنظيمية التي تغطي المصارف الإقليمية في عام 2018، وهو ما أسهم في حدوث الأزمة المصرفية عام 2023، وقانون «جينيوس» حالياً، وهي أمور حظيت كلها بدعم الحزبين.
إن صوت المال عال، وقد استعرضت مجموعات ضغط الأصول المشفرة بالفعل قوتها الهائلة بإنفاقها 40 مليون دولار لهزيمة منتقدي القطاع، مثل شيرود براون، السيناتور السابق عن ولاية أوهايو الذي شغل منصب رئيس اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ.
ورغم تصويت قرابة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ من الديمقراطيين ضد قانون «جينيوس»، إلا أن تصويت ديمقراطيين بارزين كان كافياً لتمرير القانون. ويثير هذا الأمر الكثير من القلق لدي لأربعة أسباب:
أولاً: يتم التسويق لقانون «جينيوس»، على نحو ما شهده قانون تحديث أسواق العقود الآجلة للسلع في عام 2000، بأنه وسيلة لأن تكون الأصول المشفرة أكثر أماناً، إذ ستكون كل العملات المستقرة مربوطة بالدولار الأمريكي.
لكن ذلك لن يجعل من فئة أصول متقلبة على نطاق واسع أقل تقلباً، بل قد يتسبب في أن تكون السوق الأوسع نطاقاً أكثر تقلباً.
ويشير المتحمسون للعملات المشفرة، مثل «البتكوين»، على أنها تحوط ضد الأسواق التقليدية، لكن هذه العملة في واقع الأمر استثمار أكثر تقلباً من السوق بصفة عامة، لأنها مرتبطة للغاية بسوق الأسهم.
ويعني هذا أن مكاسب العملة وخسائرها مقارنة بمؤشر «إس آند بي» ستكون أكثر تضخماً.
ثانياً: ليس بإمكاني تصور لحظة أسوأ لتشجيع «الابتكار» المالي أكثر من وقت تخيم فيه على الأسواق، والاقتصاد، والسياسة النقدية، مثل هذه الدرجة العالية من عدم اليقين.
ويكفيك أن تفكر فيما قد يحدث، إذا توجب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، على مدى الأشهر أو الأعوام المقبلة، رفع أسعار الفائدة على نحو أكثر حدة بسبب التضخم.
حينها ستتكبد الأسواق خسائر على إثر ذلك. أما بالنسبة للأصول المشفرة، فستواصل انخفاضها وبوتيرة أسرع.
الأمر الثالث، هو أننا نواجه أصداء ما وقع في عام 2008، فحجة مؤيدي قانون «جينيوس» تتمثل في أنه سيدعم الدولار وسوق سندات الخزانة.
لكن يمكن للمرء بكل بساطة أن يتصور سيناريو تتجه الأسواق فيه إلى الأمان، وتضطر فيه شركات بقطاع الأصول المشفرة، مثل «تيثر» التي تحتفظ بسندات خزانة أمريكية أكثر من ألمانيا، إلى بيع أذون الخزانة في سوق هابطة لتغطية عمليات الاسترداد.
في هذه الحالة، ستشهد الأسواق بيعاً بأسعار رخيصة، وارتفاعاً لتكاليف الاقتراض، علاوة على وضع كارثي آخر يتعرض فيه الناس البسطاء إلى ضغوط كبيرة بهدف إنقاذ المضاربين.
السبب الرابع والأخير، هو أن تخفيف القيود التنظيمية منذ تسعينيات القرن الماضي في عهد كلينتون، مهد الطريق أمام الأزمة المالية العالمية في 2008 وكذلك فقدان الحزب الديمقراطي لدعم الطبقة العاملة، وهو ما مهد الطريق أمام صعود ترامب. أما ترامب، فيمهد بدوره الطريق حالياً لأزمتنا المالية التالية بدعمه للأصول المشفرة، وكذلك بتداولها.
ترى، ما الذي سيحدث حينما تعم الفوضى المالية الأرجاء وتشعر الأسر البسيطة باستخفاف أكبر بالطبقة السياسية في وقت سينحسر فيه اهتمام الحكومة وتتقلص قدرتها على التخفيف من وطأة أزمة اقتصادية؟ حينها، لا من عملة، ولا من شيء على الإطلاق سيكون مستقراً.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك