اللغة الفرنسية في المغرب أداة تيه لغوي وإفراغ للمدرسة من رسالتها

اللغة الفرنسية في المغرب أداة تيه لغوي وإفراغ للمدرسة من رسالتها
تعليم / الثلاثاء 09 دجنبر 2025 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب: أبو دعاء

تثير مسألة اعتماد اللغة الفرنسية لغة ثانية في المغرب جدلًا واسعًا، خاصة مع تراجع قيمتها الاستراتيجية على المستوى الأوروبي، إذ لم تعد مُعترفًا بها كلغة عمل أو إدارة في دول كبرى مثل ألمانيا وإيطاليا، اللتين تشكلان القوة الاقتصادية الأصعب في القارة الأوروبية.

الأخطر من ذلك أن الفرنسيين أنفسهم، ما إن يغادروا حدود فرنسا حتى يتخلوا عن لغتهم ويستعيضوا عنها بالإنجليزية أو لغات أخرى أكثر استعمالًا، مما يكشف حجم الانكماش الذي تعيشه الفرنسية خارج فضائها الأصلي. هذا الواقع يطرح سؤال الجدوى من الإبقاء على لغة فقدت وزنها العالمي بينما يتم تقديمها لتلامذة المغرب كنافذة على المعرفة، في حين أنها لم تعد كذلك.

وما يزيد الصورة التباسًا أنّ عددا كبيرا من الإدارات والوزارات المغربية ما تزال تعتمد اللغة الفرنسية في مراسلاتها اليومية، رغم أن الدستور جعل العربية لغة رسمية للدولة، ورغم أن الفرنسية لا تُسمن ولا تُغني في مجالات التطور التكنولوجي أو العلمي. الإصرار على هذه اللغة المحدودة الانتشار يجعل منها عامل عرقلة حقيقي، لأنها تمنع ولوج أجيال كاملة إلى المعرفة الحديثة، وتخلق نخبة صغيرة مفرنسة مقابل أغلبية مُقصاة لغويًا، في نموذج يعزز اللامساواة ويعمق التخلف.

وتبرز خطورة أكبر حين يتم الدفع بالفرنسية داخل المقررات الدراسية، حيث يتحول التلميذ المغربي إلى مشروع "دماغ جاهز"، تمت قولبته على مقاس الثقافة الفرنسية، بما يجعله منسجمًا بسهولة مع سوق العمل والهجرة في فرنسا عند أول فرصة. هذه الآلية تشبه عملية "إعداد الأدمغة للرحيل"، أو ما يمكن وصفه بسياسة تهريب العقول الناعمة، حيث تتحول المدرسة المغربية إلى مزود منتظم للمواهب البشرية نحو الخارج، فيما يبقى الداخل يعاني نزيفا بشريا مستمرا.

وتتعمق الإشكالية عندما نلاحظ التراجع الكبير للمغرب في التصنيفات الدولية المتعلقة بالتعليم والصحة، وهي قطاعات يفترض أن تكون أعمدة الدولة الحديثة. حلول المغرب في ذيل هذه المؤشرات يعكس فشل سياسات لغوية وتعليمية متراكمة، فشلًا لا يتعلق باللغة فقط، بل يرتبط باختيارات بيداغوجية مضطربة، وفساد إداري ومالي التهم مليارات الدراهم دون أن يقدم تعليمًا منتجًا للمعرفة أو الصحة العامة.

ولا يمكن فصل هذا الوضع عن الفساد المالي الذي رافق إصلاحات التعليم، حيث تم ضخ ميزانيات ضخمة وإبرام صفقات عملاقة، ورغم ذلك بقيت النتائج صفرًا أو أقل من الصفر. الأخطر أن المسؤولين الحقيقيين نادرًا ما تمت محاسبتهم، وعندما تتم محاكمتهم، تكون الأحكام مخففة ورمزية، لا تتناسب مع ما ألحقوه من دمار بمؤسسات الدولة الحيوية.

ويكشف هذا المشهد أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي بوابة للهوية، والاقتصاد، والنهضة، والانتماء. الإصرار على الفرنسية لم يعد خيارًا لغويًا، بل أصبح عبئًا بنيويًا يعطل الإصلاح الحقيقي، ويقوض إمكانيات الانتقال نحو تعليم متجذر في العربية ومنفتح على الإنجليزية باعتبارها اللغة الحاكمة للعلوم والتكنولوجيا.

وفي مرحلة يسعى فيها العالم إلى إعادة تشكيل خرائط النفوذ اللغوي والمعرفي، يبدو أن الوقت قد حان ليعيد المغرب تقييم اختياراته اللغوية، وأن يتحرر من إرث استعماري لم يعد يخدم الواقع ولا المستقبل، وأن يفتح الطريق أمام نموذج تعليمي ينهض بالقيم الوطنية ويؤهل الأجيال للعلم، لا للارتماء في أحضان لغات لم تعد صالحة إلا لخلق مزيد من التبعية.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك