أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
لم تعد الفوارق المجالية في المغرب مجرد تباينات طبيعية بين جهات مختلفة، بل تحولت إلى فجوة حقيقية تهدد النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي بالمملكة.
فالمغرب اليوم يعيش انقسامًا واضحًا بين "مغرب منتج" متركز في محور الدار البيضاء–الرباط–طنجة، وبين "مغرب مهمَّش" يمتد عبر مناطق الأطلس والشرق والجنوب الشرقي، حيث تتكدس معدلات البطالة، وتنهار الخدمات الصحية، وتغيب البنية التحتية، وتستنزف الهجرة الداخلية آخر ما تبقى من الحياة الاقتصادية.
هذا الواقع لم يتغير رغم عقود من الخطابات الرسمية والبرامج التنموية، لأن جوهر الإشكال يكمن في الطريقة التي يُبنى بها قانون المالية، وفي التصور المالي للدولة الذي يوجه الاستثمارات العمومية وفق أولويات لا تعكس الاحتياجات الحقيقية للتراب الوطني.
فالفوارق المجالية ليست قَدَرً، بل إنها نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية ومالية فاشلة.
قانون المالية:هندسة تخدم المركز وتُفقر الهامش
يظهر قانون المالية كل سنة وكأنه وثيقة تقنية محايدة، لكنه في الحقيقة أقوى أداة لصناعة التفاوتات.
فالاعتمادات توزع بشكل يعزز تمركز الثروة وفرص الشغل والخدمات في جهات محددة، بينما تظل الجهات الجبلية والداخلية خارج دائرة الاهتمام.
فالبنيات الصحية الكبرى، المناطق الصناعية، الجامعات المتطورة، التجهيزات الطرقية، الاستثمارات الخاصة… كلها تتركز في المناطق نفسها، ما ينتج اقتصادًا بوجهين: وجه مزدهر يشبه دول الجنوب الأوروبي، ووجه آخر يعيش مستويات تنموية شبيهة بدول الساحل.
والنتيجة أن قانون المالية الحالي، بمقاربته المحاسباتية الضيقة، يعيد إنتاج النموذج القديم نفسه: المركز يزداد غنىً ونفوذًا، والهامش يُترك لقدره.
وهذا ما يجعل الحديث عن العدالة المجالية مجرد شعار بلا روح، ما لم يتم تغيير فلسفة القانون المالي من الأساس.
الجهات المغربية:مستعمَرات داخلية بلا صلاحيات
رغم الخطاب المتكرر عن الجهوية المتقدمة، فإن الواقع يكشف أن الجهات لا تملك سلطة مالية حقيقية ولا موارد قارة تسمح لها بصناعة تنمية مستقلة، حيث كل المشاريع الكبرى تمر عبر "المركز"، وكل القرارات الاستراتيجية تُتخذ في الرباط.
هذا الوضع يجعل الجهات مجرد "مكاتب إدارية" وليس فاعلًا اقتصاديًا قادرًا على تغيير مصير مجالها الترابي. وعندما يُحرم المنتخبون المحليون من الأدوات المالية، يصبح وجودهم شكليًا، بينما تستمر الهوة بين الوعود والنتائج بالاتساع.
الاستثمار العمومي:منطق التركز بدل منطق العدالة
أكبر خلل في توزيع الاستثمارات العمومية هو غياب معيار واضح للعدالة المجالية. فالموارد تُخصص وفق منطق "العائد الاقتصادي" وليس وفق منطق "الحاجة الاجتماعية"، ما يجعل المناطق التي تعاني الخصاص الأكبر آخر من يستفيد.
ففي وقت تحتاج فيه جهات مثل درعة–تافيلالت، فكيك، الحسيمة، ميدلت، أزيلال، خنيفرة، تاونات، والشرق إلى تعبئة مالية طارئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قطاعات الصحة والتعليم والفلاحة والماء، تستمر الاعتمادات في التدفق نحو جهات مهيكلة أصلًا.
بهذا المنطق، يصبح الاستثمار العمومي أداة لصناعة التفاوت بدل محاربته، ويصبح قانون المالية وثيقة تنحاز للمركزيات الاقتصادية والمالية بدل خدمة الوطن بأكمله.
العدالة الجبائية:الحلقة الغائبة في نموذج التحرر الاقتصادي
لا يمكن لأي حديث عن تقليص الفوارق المجالية أن ينجح دون إصلاح جبائي جريء يعيد التوازن بين الفئات الاجتماعية وبين المجالات الترابية.
فالجهات الفقيرة لا تستقبل الاستثمارات لأنها لا تستطيع تقديم حوافز، ولا تملك بنية تحتية كافية… بينما الجهات الغنية تجذب الاستثمارات أكثر لأنها غنية أصلًا.
هذه الحلقة الجهنمية لن تُكسر إلا عبر نظام جبائي يعيد توزيع الموارد بطريقة عادلة، ويفرض مساهمة أكبر على القطاعات الريعية، وعلى الأرباح الضخمة التي تستفيد من الدعم العمومي دون أن تُعيد شيئًا للدولة.
تغيير قانون المالية ليس اختيارًا بل ضرورة وطنية
تعديل قانون المالية لم يعد مسألة تقنية تُناقش في البرلمان، بل أصبح مسألة وجودية تمس مستقبل المغرب واستقراره الاجتماعي.
فالقانون المالي يجب أن يتحول من وثيقة محاسبة سنوية إلى أداة لإعادة بناء التوازن الترابي، وتوجيه الاستثمار نحو المناطق الأكثر هشاشة، ونقل جزء من السلطة المالية إلى الجهات، وخلق نموذج اقتصادي قائم على العدالة الترابية بدل منطق الربح والمركزية.
والفوارق المجالية اليوم ليست مجرد أرقام تُنشر في التقارير، بل هي شرخ اجتماعي يتعمق، وشرارة كامنة تُنذر بانفجارات اجتماعية في أي لحظة إذا استمر الوضع كما هو.
فالمغرب ليس بحاجة إلى مزيد من اللجان والبرامج والشعارات، بل إلى قانون مالية ثوري يعترف بأن التنمية الحقيقية تبدأ من الهامش لا من المركز.
إن لحظة الحقيقة قد وصلت، والقانون المالي هو الجبهة الأولى لإصلاح حقيقي طال انتظاره.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك