أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
يُقدَّم مشروع قانون مالية 2026 في المغرب باعتباره خطوة «إصلاحية» لضبط التوازنات الماكرو-اقتصادية، لكنه في العمق يرسّخ نموذجاً مالياً يخدم مصالح دوائر المال والنفوذ، ويعمّق الهوة بين الأغنياء وباقي فئات المجتمع.
فبدل أن يكون القانون فرصة لإعادة توزيع الثروة وتحسين الخدمات العمومية، جاء ليكرّس مزيداً من الضغط على الأسرة المغربية، وخاصة الطبقة المتوسطة التي أصبحت مهددة بالاختفاء، والطبقات الهشة التي دفعت الثمن الأكبر.
زيادات ضريبية تُنهك الأسر وتُحصّن الشركات الكبرى
يتضمن قانون مالية 2026 حزمة من الإجراءات الضريبية التي تبدو في ظاهرها إصلاحية، لكنها في الواقع تُفاقم العبء الضريبي على الأفراد مقابل تخفيفه بشكل غير مباشر على كبريات الشركات والقطاعات المحتكرة.
فعوض توسيع الوعاء الضريبي على الأرباح الكبرى، وفرض ضرائب تصاعدية على الثروة أو الاحتكار، يختار المشروع رفع الضرائب غير المباشرة التي تؤثر على القدرة الشرائية اليومية: ارتفاع ضريبة القيمة المضافة على عدد من السلع والخدمات، وتوجيه الضغط نحو المستهلك بدل الرأسمال.
هذه التدابير تُترجم عملياً إلى زيادة أثمنة المواد الأساسية، النقل، الخدمات الطبية الخاصة، والمواد الاستهلاكية… ما يجعل ميزانية الأسر المتوسطة والغارقة في القروض أكثر هشاشة، بينما يستفيد المستثمرون الكبار من استمرار الامتيازات الضريبية والاستثناءات.
خوصصة مقنّعة للمرفق العمومي
بدل تعزيز الاستثمار في القطاعات الاجتماعية الحيوية، يظهر القانون ميلاً واضحاً نحو خفض الاعتمادات المخصصة للصحة والتعليم والسكن الاجتماعي، وتعويضها بسياسات تشجع القطاع الخاص على التغلغل أكثر في هذه المجالات.
وهذا التوجّه يُعد شكلاً جديداً من الخوصصة غير المعلنة، إذ يُحوَّل المواطن من مستفيد من خدمة عمومية إلى «زبون» لسوق مفتوحة لا ترحم الضعفاء.
النتيجة المتوقعة هي استمرار تدهور جودة التعليم العمومي، ازدحام المستشفيات الحكومية، وارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية، مما يدفع الأسر مجبرة نحو القطاع الخاص الذي يستفيد من ضعف الدولة في هذه القطاعات.
توسيع الفجوة الطبقية لصالح الأوليغارشية
أبرز ما يُلاحَظ في قانون مالية 2026 هو غياب أي سياسة حقيقية لإعادة توزيع الثروة، مقابل استمرار الامتيازات التي تستفيد منها مجموعات اقتصادية كبرى تهيمن على قطاعات الطاقة، المحروقات، الاتصالات، الأبناك، والعقار.
هذه الأوليغارشية، التي راكمت أرباحاً قياسية في السنوات الأخيرة، تستمر في الاستفادة من غياب ضرائب على الثروة، ومن تحفيزات ضريبية وانتقائية في الصفقات العمومية، بينما يُجبر المواطن على تمويل الخزينة عبر جيبه.
وبهذا يميل ميزان الربح والخسارة بشكل واضح نحو الرأسماليين والفاعلين الكبار، على حساب العدالة الاجتماعية.
طبقة متوسطة تحت الحصار وطبقات هشة بلا حماية
باتت الطبقة المتوسطة في المغرب الحلقة الأضعف في كل قوانين المالية الأخيرة، ومشروع 2026 يوجه الضربة الأقوى لها. فالتكاليف ترتفع، الأجور راكدة، والضرائب غير المباشرة تتوسع، في وقت لا تقدم فيه الدولة شبكات حماية اجتماعية فعالة.
أما الفئات الهشة—العمال غير المهيكلين، النساء العاملات بأجور ضعيفة، الشباب العاطل، سكان القرى—فلا تجد في ميزانية 2026 أي رؤية تنموية أو برامج دعم حقيقية. الدعم الاجتماعي الموعود يبقى محدوداً وشروطه معقدة، بينما تظل الحماية من ارتفاع الأسعار غائبة تماماً.
خلاصة صادمة وميزانية بلا عدالة اجتماعية
يكشف مشروع قانون مالية 2026 عن فلسفة اقتصادية تفضّل «الاستقرار المالي» على حساب الاستقرار الاجتماعي، وتضع مصلحة الرأسمال فوق احتياجات المواطن.
فبدل أن يكون القانون فرصة لضخّ جرعة أمل في اقتصاد مأزوم وطبقة متوسطة مُنهكة، جاء ليجسد استمرار هيمنة الأوليغارشية على القرار الاقتصادي، وتوجيه بوصلة الدولة نحو خدمة أصحاب النفوذ المالي.
وبينما ينتظر المغاربة حلولاً تُخفف عنهم عبء المعيشة، يُرسّخ هذا القانون مزيداً من الفوارق، ويُقرب البلاد من نموذج اقتصادي غير عادل… نموذج يخدم القلة على حساب الأغلبية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك