أنتلجنسيا المغرب:أبو جاسر
لم تعد مسألة العدالة الضريبية في المغرب موضوعًا تقنيًا أو نقاشًا محاسباتيًا معزولًا، بل تحولت إلى عنوان صارخ لاختلال بنيوي عميق يكشف طبيعة الاختيارات السياسية والاقتصادية للدولة.
فالنظام الجبائي، كما يُمارس على أرض الواقع، لا يوزع الأعباء بشكل عادل، ولا ينطلق من مبدأ “من يملك أكثر يساهم أكثر”، بل يعيد إنتاج الظلم الاجتماعي عبر استهداف مباشر وممنهج للطبقات الهشة والمتوسطة، مقابل تساهل مريب مع كبار الفاعلين الاقتصاديين وأصحاب الثروات الكبرى.
والواقع الضريبي اليوم، يُظهر بوضوح أن الأجراء وصغار التجار والمهنيين والطبقة المتوسطة هم الخزان الحقيقي للضرائب، إذ تُقتطع مساهماتهم عند المنبع دون أي قدرة على المناورة أو التهرب، بينما تُترك مساحات واسعة للمقاولات الكبرى والمجموعات الاقتصادية النافذة لإعادة ترتيب حساباتها، واستغلال الثغرات القانونية، أو الاستفادة من الإعفاءات والتحفيزات التي تحولت من أدوات تشجيع إلى آليات محاباة.
في المقابل، تواصل الدولة تشديد الخناق على الفئات الضعيفة، سواء عبر الضرائب غير المباشرة التي تطال الجميع دون تمييز، أو من خلال توسيع الوعاء الجبائي على حساب صغار المهنيين، في وقت ترتفع فيه كلفة المعيشة، وتتآكل القدرة الشرائية، وتغيب الحماية الاجتماعية الفعلية.
وهنا، تتحول الضريبة من أداة للتضامن الاجتماعي، إلى وسيلة ضغط اجتماعي تُعمّق الإحساس بالحيف وتغذي فقدان الثقة في المؤسسات.
والأخطر من ذلك، أن هذا الاختلال لا يمكن فصله عن دور ما يُعرف بالدولة العميقة، التي تشرف على هندسة السياسات الكبرى، وتضمن استمرار منظومة الامتيازات لفائدة فئة محدودة تجمع بين المال والنفوذ.
فهذه الدوائر غير المنتخبة لا تكتفي بالتأثير في القرار الاقتصادي، بل تعمل على حماية مصالح الأوليغارشية، سواء عبر قوانين مفصلة على المقاس، أو عبر ضعف المراقبة الجبائية، أو من خلال انتقائية صارخة في تفعيل المساءلة.
إن الحديث الرسمي عن إصلاح جبائي شامل يفقد مصداقيته ما دامت الثروة الكبرى خارج دائرة المساءلة الحقيقية، وما دام الاقتصاد الريعي يحظى بالحماية، بينما يُطلب من المواطن البسيط أن “يتحمل مسؤوليته الوطنية”.
فأي وطنية ضريبية هذه التي تُحمّل العبء لمن لا يملك، وتُعفي من يراكم الأرباح والعقارات والامتيازات؟
إن غياب العدالة الضريبية في المغرب ليس خللًا عابرًا، بل خيار سياسي واضح المعالم، يعكس ميزان قوة مختلًا، ويؤكد أن الدولة، بدل أن تكون حكمًا بين الفئات، اختارت الاصطفاف إلى جانب الأقوى اقتصاديًا.
وهو ما يجعل أي حديث عن العدالة الاجتماعية أو تقليص الفوارق، مجرد شعارات فارغة، ما لم يتم كسر منطق الامتياز، وربط الضريبة فعليًا بالثروة، لا بالدخل الهش.
فاستمرار هذا الوضع، ينذر بمزيد من الاحتقان الاجتماعي، ويُقوّض أسس العقد الاجتماعي، لأن الشعوب قد تصبر على الفقر، لكنها لا تصبر طويلًا على الظلم حين يصبح سياسة عمومية.
والعدالة الضريبية، في جوهرها، ليست مطلبًا تقنيًا، بل معركة سياسية وأخلاقية، عنوانها الكبير، دولة للجميع، لا دولة للأوليغارشية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك