أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
في المغرب، لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق ليكتشف أن البرلمان بغرفتيه، النواب والمستشارين لا يمارس سوى جزء صغير من وظيفته الحقيقية.
فحين يصل النقاش إلى المؤسسات السيادية، يتوقف الجميع عن الكلام، وكأن هناك اتفاقاً غير مكتوب على أن “الملف أكبر من البرلمان”.
فالنواب الذين يُفترض أنهم ممثلو الأمة، يقفون عاجزين أمام جدار سميك يمنعهم من طرح أسئلة أو مناقشة تفاصيل تتعلق بقطاعات تُعتبر العمود الفقري للسلطة بالمغرب:
• ميزانية القصر الملكي
• ميزانية القوات المسلحة الملكية
• ميزانية الأمن الوطني
• ميزانية المخابرات الداخلية (DGST)
• ميزانية المخابرات الخارجية (DGED)
هذا التقرير الاستقصائي يرصد كيف تم تفريغ المؤسسة التشريعية من دورها الرقابي؟، وتحويلها إلى جهاز “موافق دائماً” لا يناقش ما لا يجب مناقشته.
أولاً: دستور متقدم وممارسة متخلفة
ينص الدستور المغربي على أن البرلمان يملك سلطة كاملة في:
• مناقشة قانون المالية
• مراقبة العمل الحكومي
• مساءلة الوزراء
• الاطلاع على تفاصيل الصرف العمومي
لكن الواقع يقول شيئاً آخر، فعندما تصل الميزانيات السيادية إلى البرلمان، تتحول إلى “أرقام مقدسة” تُقرأ ولا تُناقش، تُعرض ولا تُشرح، تُمرَّر دون مساءلة أو تعديل أو تبرير.
البرلمان يعرف أنه أمام خطوط حمراء مطلقة لا يُسمح بتجاوزها، مهما كان انتماء الفرق أو توجهات النواب.
ثانياً: ميزانيات تمرّ في الظل بلا تفاصيل ولا شفافية
1. ميزانية القصر الملكي: صندوقٌ مغلق بلا مفاتيح
لا تُقدَّم للبرلمان أي تفاصيل حول:
• طريقة صرف الميزانية
• طبيعة الصفقات
• أسماء الشركات المتعاقدة
• حجم الأجور والمخصصات
• المشاريع المرتبطة بالمؤسسة الملكية
النواب يتسلمون رقماً إجمالياً جاهزاً، ويصوّتون عليه كما هو.
لا مناقشة، لا أسئلة، لا اعتراض.
2. وزارة الدفاع:“ممنوع الاقتراب أو التصوير”
القوات المسلحة الملكية تخضع مباشرة للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني أن النواب لا يملكون الحق، لا قانونياً ولا سياسياً في مساءلة:
• حجم صفقات السلاح
• طبيعة العقود
• التحالفات العسكرية
• ميزانية التسلح واللوجستيك
• آليات الرقابة والتدقيق
3. الأمن الوطني والمخابرات:غياب مطلق للرقابة
في الأنظمة الديمقراطية، تُراقَب الأجهزة الأمنية عبر:
• لجان سرية
• تقارير سنوية
• جلسات مغلقة
أما في المغرب:
لا لجان، لا تقارير، لا رقابة.
فميزانيات DGST وDGED تُدرج في مشروع المالية ككتلة واحدة دون أي شرح، ولا يجرؤ أي نائب على طلب التفاصيل.
ثالثاً:كيف تم كسر إرادة البرلمان؟
1. هندسة سياسية تجعل كل شيء تحت السيطرة
الأحزاب المشاركة في الحكم لا تريد مواجهة القصر.
الأحزاب المعارضة فقدت أنيابها منذ سنوات.
وكل الفرق البرلمانية تعمل بمنطق “تجنب الصدام مع المؤسسات الحساسة”.
2. نواب يعرفون حدود لعبتهم
الجميع داخل البرلمان يعرف:
النائب الذي يقترب من الملفات السيادية يعرّض نفسه للعزلة السياسية، وربما يفتح على نفسه مشاكل أكبر.
لذلك يفضّل الجميع الصمت.
3. غياب الإعلام الاستقصائي القادر على فتح الملفات
معظم وسائل الإعلام الرسمية أو القريبة من السلطة تعتبر هذه الملفات “طابوهاً مطلقاً”.
وبالتالي، لا يوجد ضغط إعلامي أو مجتمعي لإجبار البرلمان على ممارسة دوره.
4. ثقافة سياسية تعتبر الأمن والقصر “محميات مقدسة”
هذه الثقافة تجعل كل نقد أو تساؤل يُقدَّم كتهديد “للاستقرار”.
رابعاً:النتيجة..نصف الميزانية خارج الرقابة
بين ميزانيات القصر، الجيش، الأمن والمخابرات، يُعتقد أن ما بين 30% و40% من المالية العمومية تمرّ دون شفافية حقيقية، ودون مناقشة مؤسساتية.
فالبرلمان المغربي بغؤفتيه يناقش القطاعات الضعيفة فقط:الصحة، التعليم، التشغيل، الضرائب..أما القطاعات الحقيقية التي تحدد اتجاه الدولة فهي خارج اختصاصه الفعلي.
وهكذا، يتحول مشروع القانون المالي إلى وثيقة ناقصة، لأنها لا تخضع للرقابة على أهم أبوابها.
خامساً:هل يمكن إصلاح الوضع؟
من الناحية النظرية: نعم، لكن من الناحية الواقعية: صعب جداً، فالإصلاح يتطلب:
لجان برلمانية سرية لمراقبة الأمن والمخابرات
إلزام القصر بنشر تقارير مالية سنوية
آليات شفافة للتدقيق في صفقات التسلح
إعلام قوي مستقل قادر على فتح الملفات
نواب يملكون الشجاعة السياسية
لكن في ظل موازين القوى الحالية، كل هذه الخطوات تبدو بعيدة المنال.
خلاصة:برلمان يُشاهد ولا يقرر ومغرب بميزانيتين
هناك مغرب يُناقَش داخل البرلمان، ومغرب آخر أكبر بكثير يُدار خارج البرلمان، حيثالنواب يصوّتون على ميزانية الدولة، لكن أهم بنود هذه الميزانية لا يملكون الحق حتى في النظر إليها.
ما يعني أن المغرب يعيش بميزانيتين:
ميزانية معلنة للواجهة،
وميزانية سيادية لا يراها إلا أصحاب القرار.
وما لم يتم فتح هذا “الصندوق الأسود”، سيظل البرلمان مؤسسة رمزية، وسيظل المواطن بعيداً عن معرفة كيف تُصرف أمواله فعلياً.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك