أنتلجنسيا المغرب:الهدهد المغربي
رغم مرور نصف قرن على واحدة من أكبر المآسي في تاريخ العلاقات بين المغرب والجزائر، لا تزال جراح آلاف الأسر المغربية التي طُردت تعسفًا من الأراضي الجزائرية سنة 1975 تنزف بصمت، في غياب أي اعتراف رسمي من الدولة الجزائرية أو تعويض للضحايا.
إنها الذكرى الخمسون لطرد قاسٍ لم يشهد له التاريخ المغاربي مثيلًا، حيث حُرم عشرات الآلاف من المغاربة من منازلهم وأملاكهم وأحبابهم، وتم اقتلاعهم من أرض عاشوا فيها لعقود، دون سابق إنذار أو ذنب سوى أنهم مغاربة.
مأساة بدأت بقرار سياسي في زمن الشقاق
في سنة 1975، وفي خضم التوترات الإقليمية التي فجّرتها قضية الصحراء المغربية بعد المسيرة الخضراء، أقدمت السلطات الجزائرية على طرد جماعي لآلاف العائلات المغربية المقيمة على أراضيها، في خطوة اعتبرها العديد من المراقبين السياسيين حينها انتقامًا من الموقف المغربي الداعم لمغربية الصحراء. ولم يكن القرار مبررًا قانونيًا أو أخلاقيًا، بل كان عقابًا جماعيًا، لم يُراعِ لا النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ، بل ولم يستثن حتى من كانوا يحملون وثائق إقامة شرعية، أو من وُلدوا بالجزائر وعاشوا فيها لعقود.
أرقام موجعة وشهادات مزلزلة
تشير التقديرات إلى أن عدد المغاربة المطرودين من الجزائر في تلك السنة السوداء تراوح بين 35 و45 ألف عائلة، أي ما يقارب 350 ألف شخص. وقد تم تفريق العائلات في ظروف مأساوية، حيث سُحبت أوراقهم الثبوتية، وصودرت ممتلكاتهم، ومُنعوا من أخذ أمتعتهم أو حتى وداع جيرانهم وأقاربهم.
وفي شهادات حيّة لمواطنين مغاربة كانوا أطفالًا آنذاك، يتكرر المشهد ذاته: عناصر من الشرطة الجزائرية تقتحم البيوت، تجبر السكان على مغادرتها خلال ساعات، وتُجبر العائلات على عبور الحدود نحو المغرب، حاملين فقط ما استطاعوا حمله من أيدي أطفالهم أو بعض الوثائق.
غياب العدالة ونداء لإنصاف تاريخي
رغم مرور 50 سنة، لا يزال ملف المغاربة المطرودين من الجزائر مطويًا في الأدراج السياسية، ولم تُتخذ أي خطوة ملموسة من الجانب الجزائري للاعتراف بالخطأ أو تعويض المتضررين. أما على الصعيد المغربي، فقد شهدت القضية بعض المبادرات الرمزية، كتشكيل جمعيات لضحايا الطرد التعسفي، وتنظيم فعاليات لإحياء الذاكرة، لكن دون قرارات سياسية ترقى إلى حجم الفاجعة.
وقد رفعت الجمعيات الحقوقية مرارًا مطالبها إلى الهيئات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، من أجل فتح تحقيق دولي في هذه الجريمة الإنسانية، التي تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وللحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها الحق في التنقل، والسكن، والملكية، والعيش الكريم.
مأساة إنسانية لا تموت بالتقادم
ما يجعل جراح هذه المأساة لا تندمل هو استمرار آثارها الاجتماعية والنفسية إلى اليوم. فقد فقد كثير من المطرودين أراضيهم وممتلكاتهم التي لا تزال مسجلة باسمهم في الجزائر، دون أن يتمكنوا من استرجاعها أو حتى زيارتها. كما أن بعضهم لا يزال محرومًا من لمّ شمل أسرته، بعد أن فُرضت الحواجز السياسية والعسكرية بين الجانبين.
وفي ظل عودة النقاش حول المصالحة التاريخية بين الدول المغاربية، يطالب الضحايا وأبناؤهم باعتبار قضيتهم جزءًا لا يتجزأ من أي مشروع إنصاف حقيقي في المنطقة. فلا يمكن الحديث عن طي صفحة الماضي دون معالجة هذه الجراح المفتوحة، التي تمثل واحدة من أبشع صور التهجير القسري في تاريخ شمال إفريقيا الحديث.
ذاكرة شعبية لا تنسى
رغم التجاهل الرسمي، لم تختفِ المأساة من ذاكرة المغاربة. ففي كل ذكرى، تُنظم وقفات رمزية، وتُعاد نشر الشهادات، وتُبعث من جديد مطالب العدالة. وأصبح الملف أكثر حضورًا في النقاشات الوطنية بعد الانفتاح الإعلامي والرقمي، حيث باتت قصص الضحايا تُوثق على منصات التواصل، وتصل إلى جيل لم يعش المأساة، لكنه يشعر بوجعها ويتبنى قضيتها.
هل آن أوان الإنصاف؟
مع اقتراب الذكرى الخمسين، يرتفع صوت الضحايا من جديد: آن الأوان لاعتراف رسمي من الجزائر بالجريمة المرتكبة في حق آلاف الأبرياء، وآن الأوان للدولة المغربية أن ترفع من مستوى دعمها لهذا الملف ليأخذ بعده السياسي والحقوقي، بعيدًا عن التوظيف الظرفي أو المناسباتي.
هي ذكرى موجعة، لكنها فرصة حقيقية للتاريخ كي يُعيد الاعتبار لمن طردهم الظلم واحتضنهم الوطن. فلا عدالة بدون ذاكرة، ولا مصالحة بدون إنصاف
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك