بالاحمر أمجاهد...الجهاد بسيف من خشب

بالاحمر أمجاهد...الجهاد بسيف من خشب
أقلام حرة / الإثنين 08 دجنبر 2025 / لا توجد تعليقات:

بقلم : عبد العزيز بنصالح

في المشهد الأخير الذي ظهر فيه يونس مجاهد، بدا وكأنه يدخل إلى دائرة الضوء لأول مرة، لا كأحد أكثر الوجوه رسوخًا في المشهد النقابي والإعلامي، بل كرجل فقد بوصلته فجأة وهو يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ارتباكه لم يكن عابرًا، ولا مجرد زلل أمام كاميرا، بل كان ارتباكًا مكثفًا، متشعبًا، يفضح أكثر مما يخفي. طريقة جلوسه وحدها كانت تحمل ما يكفي من الرسائل: كتفان منحنِيان، نظرات متقطعة، تردد واضح في الحركة، وكأن الجسد نفسه يصرخ قبل اللسان: هناك شيء ما انكسر في الداخل.

المشهد الأكثر دلالة كان ذلك القلم الأحمر الذي حمله بين أصابعه. بدا وكأنه جاء ليصحح رواية زميله البقالي، أو ليضع خطًا أحمر تحت بعض الكلام، أو فوقه، أو ربما ليعيد ترتيب التاريخ كما يراه هو. لكن اليد الأخرى كانت تحمل ممحاة غير مرئية، ممحاة تحاول محو كل ما يمكن أن يعود عليه بالضرر: تصريح هنا، عبارة هناك، انطباع ترسخ في المتلقي… إلا أن الممحاة بدت أكثر هشاشة من أن تخفي آثار ما حدث.

خطابه لم يكن خطاب رجل متمكن من أدواته، بل بدا كمن يُساق من فكرة إلى أخرى دون رابط، يتنقل بينها بعشوائية، وبأنفاس متقطعة، وكأنه يلاحق الكلمات بدل أن تقوده. غاب عنه الاتساق وغابت السلاسة، وحضر التبرير، وحضر الدفاع المستميت عن الذات، وحضر ذاك الحرص غير المعلن على تلميع صورة شابت بفعل الضغوط والأحداث المتلاحقة.

ولم يفته في خضم هذا الارتباك أن يغلق الباب خلفه بإحكام مع هيئة المحامين. اعتذار طويل، محشو بعبارات التبجيل والتوقير، بدا أقرب إلى محاولة استرضاء جهة يشعر بأنه بحاجة إلى رضاها أكثر من حاجته لشرح الحقيقة. كان الاعتذار أقرب إلى رسالة ولاء منه إلى توضيح موضوعي.

لكن المفارقة أن ما سماه توضيحًا لم يُضِف وضوحًا، بل زاد المشهد التباسًا. الكلمات التي خرجت منه كانت أشبه بضباب كثيف يخفي خلفه ما هو أهم: سؤال الشفافية، سؤال الأخلاق المهنية، سؤال استقلالية العمل النقابي والصحافي. بدا وكأنه يحاول رشّ رذاذ من العبارات لإطفاء حريق، بينما كانت النار تزداد اشتعالًا.

وهذا ما حصل فعلًا. فبمجرد بث رده، عادت مواقع التواصل إلى الغليان، واستعادت القضية زخمًا كان قد بدأ يخفت. الردود التي خرجت كانت حادة، لاذعة، معتبرة أن مجاهد لم يفعل سوى تأكيد الشبهات بدل نفيها. البعض رأى فيه محاولة التفاف على جوهر القضية، والبعض الآخر اعتبره اعترافًا مغلفًا، بينما وجد آخرون في ارتباكه دليلًا على أن القصة أكبر وأعمق مما ظهر حتى الآن.

الملفت أن المتابعين لم يتوقفوا عند مضمون كلامه فقط، بل التقطوا كل الإشارات غير اللفظية: نبرة الصوت، اضطراب الجلسة، تنقل العينين، وحتى التردد في اختيار بعض المفردات. وكأن الجمهور رأى في لغة الجسد ما لم يقله اللسان.

اليوم، يبدو أن تصريح مجاهد تحول من محاولة للدفاع عن الذات إلى مادة إضافية للجدل، بل إلى شرارة جديدة أشعلت نقاشًا واسعًا حول:

منطق تسيير الهيئة

حدود العلاقة بين الصحافة والسلطة،

الحسابات الداخلية التي قد تطفو على السطح كلما انفجرت أزمة،

والسؤال الأخلاقي الذي يخيم على كل الفضاء الإعلامي.

إن ما جرى يعكس لحظة سقوط رمز أكثر مما يعكس مجرد خلاف بين زملاء. لحظة كشفت هشاشة المنظومة، وعمق التصدعات داخل الجسم الصحافي، وكمّ الغضب المختزن لدى جزء واسع من المهنيين والجمهور إزاء ما يرونه تواطؤًا أو صمتًا أو إدارة غامضة للملف.

وإذا كانت الأزمة قد بدأت بتسريب مداولات لجنة الأخلاقيات، فإن رد مجاهد جعلها تتحول إلى قضية رأي عام، فيها السياسة، وفيها النقابة، وفيها الحسابات، وفيها أيضًا سؤال الثقة الذي يبدو اليوم أكثر تآكلًا من أي وقت مضى.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك