
بقلم : نادية عسوي
أبدأ يومي بفنجان
قهوة يوقظني من نومٍ ثقيل يغلب على جسدٍ أنهكه التعب والسنين. البحر أمامي بلونه
الرمادي، لون سماء الخريف، ونسيم بارد ينساب على وجهي كأنه يدفعني إلى التأمل.
هناك، عند الأفق البعيد، تذكرت ماضينا… نحن جيل غنّينا للسلام فاختفى، وهتفنا ضد
القهر فعاد أقوى.
نحن جيل لم
تُهدَ له الحرية، بل ناضل من أجلها. عشنا فترة من السلام النسبي، زمنًا كانت فيه
الدول تحترم قرارات المنظمات الأممية، وكان لصوت القانون الدولي وزنٌ وهيبة.
في نهاية
الستينات وبداية السبعينات تفجّر ربيع باريس، وامتلأت الجامعات والشوارع بصوت
الشباب المطالب بالحرية. اشتعلت الأغاني الثورية: رفعت موجة الهيبي شعار الحب
والسلام، وغنّت موجة الراستا ضد التمييز والعنصرية، وصدحت مئات المجموعات عبر
العالم من أجل الحرية والديموقراطية والثورة.
رافقنا
البيتلز في حلمهم بعالمٍ بلا حروب، وردّدنا مع بوب مارلي نشيد الحقوق والعدالة.
فيروز كانت تصلي للقدس بصوتها الصافي، ومارسيل خليفة لحّن قصائد درويش، والشيخ
إمام مع أحمد فؤاد نجم غيّرا وجدان مصر والعرب، وناس الغيوان في المغرب فجّروا
الشوارع بأهازيجهم الشعبية. لم تكن تلك مجرد أغانٍ، بل كانت وقودًا لنضالنا، لغةً
نتواصل بها، وسلاحًا نواجه به عالمًا بدا أقوى منا.
ولم تكن الأغاني وحدها ما غذّت أحلامنا، بل أيضًا صور الثوار التي علّقت على جدران الجامعات والمقاهي. كان وجه تشي غيفارا، بقبعته السوداء ونجمة حمراء تتوسّطها، رمزًا يرافقنا في كل مكان. لم نره مجرد مقاتل في جبال بعيدة، بل أيقونة لحلمٍ أممي بالحرية والعدالة. في كلماته عن "الإنسان الجديد" وجدنا أنفسنا، وفي نظرته الواثقة قرأنا الشجاعة التي نفتقدها. لقد صار غيفارا نشيدًا صامتًا، يذكّرنا أن الثورة تبدأ بفكرة، وأن الفكرة قادرة على أن تغيّر مجرى التاريخ.
ومن بين
السطور والدعم الخفي الذي وصلنا من دول مانحة، تعلمنا أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح،
وأن الفن والفكر قادران على تحريك الجبال.
لقد كان
نضالنا من أجل كل هذا، فلماذا نستكثره على الأجيال اللاحقة؟ لماذا نمنح لأنفسنا
شرعية الطمأنينة ونحرم أبناءنا منها؟
اليوم تبدو
الصورة معكوسة. الألحان صارت صدى بعيدًا، والشعارات تاهت وسط ضجيج الواقع. كل
واحدٍ منّا يقبض على كرسيه كأنه ميراث لا يزول. بينما وُلد جيل جديد محاصر بجدار
الفيزا، مثقل بأزمات اقتصادية خانقة، محروم من فسحة الحلم، محاصر بحرياتٍ تتبخر.
جيل يحاول أن يصرخ لكن الصدى باهت، يحاول أن يحلم لكن الحلم مؤجل.
أما العالم،
فقد فقد صوته. المنظمات الأممية التي كنا نثق فيها تراجعت، وصار صوت المدافع أعلى
من أي ضمير. التحركات الأوروبية جاءت متأخرة، مثل جرّاحٍ يفتح صدر المريض بعدما
تسرطنت أوصاله. العالم يشتعل، والإنسانية تنكمش.
وما يزيد
الجراح عمقًا أن جيلنا لا يزال يستكبر على الجيل الحالي أن يعيش الطمأنينة التي
عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية. والأسوأ أن بعض الشيوخ، الذين لا يقوون على
السير إلا متكئين على عكاز، ما زالوا يصرّون على الإمساك بمقود القيادة. يتحدثون
عن المستقبل وكأنهم خالدون، بينما بالكاد يقوون على مواجهة يومهم. ألا يدركون أن
من لم يعد قادرًا على خدمة نفسه، لا يمكنه أن يقود عالمًا بأسره يزداد تعقيدًا
واشتعالًا؟
الحقيقة التي
لا يجب أن ننساها: العالم لم يعد ملكنا. لقد صار ملكًا لأبنائنا وأحفادنا. والسؤال
الذي يطاردني وأنا أحدّق في هذا البحر الرمادي: ماذا سنترك لهم؟ أرضًا محروقة؟
أحقادًا متوارثة؟ مناخًا خانقًا؟ أم إرثًا من الخوف والانفلات؟
أرتشف آخر
رشفة من قهوتي، وأتنهد مع نسيم الخريف البارد. ربما آن الأوان أن ننسحب قليلًا، أن
نترك للشباب فرصة أن يكتب أغنيته الخاصة: أغنية الحرية والكرامة والعدالة
الاجتماعية. أغنية تبدأ بالسلم، ولا تزدهر إلا حين يرتفع صوت الضمير فوق صوت
القنابل.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك