
أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
في شوارع المغرب، خرج مئات، بل ألاف الشباب سمو أنفسهم شباب
"جيل Z" رافعين أصواتهم بالحق،
مطالبين بما هو أبسط من أبسط الحقوق، مطالبين بصحة تحفظ كرامة الإنسان، بتعليم
يفتح أبواب الغد، وبقضاء يضمن الإنصاف دون محاباة أو فساد، خرجوا لأنهم ضاقوا
ذرعًا من الوعود البراقة التي تحولت إلى سراب، ولأنهم أيقنوا أن الصمت لم يعد يجدي
نفعًا، وأن الصبر الذي عاشوه لعقود طويلة قد بلغ مداه.
في المستشفيات، الحكايات أكثر وجعًا من كل خطابات السياسيين،
مواطن بسيط يبحث عن جهاز "سكانير" فيجد نفسه ينتظر شهورًا، أو يضطر لبيع
ما يملك ليجري فحصًا في مصحة خاصة، أمّ تضع مولودها على الطريق لأن المستشفى لا
يتوفر على قابلة، ومريض يفارق الحياة في سيارة إسعاف متهالكة قبل أن يبلغ باب
المستشفى، هنا تكمن المأساة، مأساة شعب يعيش في بلد يقول إنه يحترم مواطنيه، بينما
الواقع يفضح عكس ذلك.
أما في ساحات العدالة، فالمغاربة يتساءلون، أي عدل هذا الذي
يحكم للفاسد على حساب الضعيف؟
أي قضاء هذا
الذي يترك البسطاء يتيهون في ردهات المحاكم سنوات طويلة بينما تُسوّى قضايا النافذين
في لمح البصر؟
المواطن
البسيط يريد قضاءً نزيهًا، قضاءً يرد المظالم، ينصف الفقير أمام الغني، يحمي
العاملة البسيطة من الاغتصاب، ويعيد الحق للموظف المطرود تعسفًا من العمل، يريد
عدالة لا تعرف وجوهًا ولا ألقابًا، بل تعرف الحق فقط.
وفي التعليم، الكارثة لا تقل فداحة، نحن اليوم في مؤخرة الترتيب
العالمي، في المرتبة 113، وهو رقم يثير الخجل، كيف لشعب أن ينهض بتعليم مترهل لا
يمنح إلا شهادات بلا قيمة؟
كيف لجيل أن
يواجه تحديات العصر بعلم يقتل الطموح بدل أن يزرعه؟
الشباب يريدون
تعليمًا عصريًا، تعليمًا يفتح أمامهم أبواب الشغل، تعليمًا يحترم ذكاءهم وطاقاتهم
بدل أن يحشرهم في مناهج بائدة.
لكن بدل أن تنصت الدولة لصوت العقل، اختارت الحل السهل: القمع،
"الزرواطة" حاضرة في الساحات أكثر من الحلول، كل من يرفع صوته بالحق،
يجد نفسه أمام عصا غليظة بدل أذان صاغية، الدولة تعاملت مع صرخة الشباب كأنها
جريمة، مع أن الحقيقة أن الصرخة إنذار أخير قبل الانفجار الجميع ضاق ذرعا من الجور
والظلم والطغيان المخزني والحكومي.
نتيجة ذلك أن الشباب لم يعودوا يحلمون بالإصلاح داخل وطنهم، بل
بالهرب منه، الهجرة صارت الحلم الأكبر، والوسيلة الوحيدة للخلاص، شباب يقسم أن
يغادر برًا أو بحرًا أو جوًا، لا يهم، المهم هو الابتعاد عن بلد صار عنوانًا
للإحباط، "الحكرة"
الحكرة صارت عنوان المرحلة، مواطن يتعرض للإهانة في المستشفى، آخر
في المحكمة، وثالث في الجامعة...،مؤسسات الدولة بدل أن تكون حضنًا للمواطن، تحولت
إلى مصدر للوجع، التعليم أصبح سوقًا تباع فيه النقط مقابل الجنس، والشواهد العليا
مقابل الجنس أو المال، حتى شهادة الدكتوراه، التي من المفترض أن تكون قمة الهرم
الأكاديمي، بيعت في "قيسارية قليش"
.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة قطاعية، بل أزمة وجودية، عندما
يفقد المواطن الثقة في صحته وتعليمه وقضائه ومؤسساته الحيوية، يفقد تلقائيًا ثقته
في الدولة برمتها، وحينها، تصبح كل خطابات التنمية والنهضة مجرد شعارات جوفاء لا
يصدقها أحد، الاحتجاجات اليوم ليست نزوة شباب عابث، بل صرخة مجتمع بأكمله،
صرخة أمهات فقدن أبناءهن على أبواب المستشفيات، صرخة عمال بسطاء سحقهم الظلم، صرخة
طلاب يدرسون في مدارس بلا روح ولا أفق، كل هذه الصرخات تلتقي في نقطة واحدة،
"كفى من الحكرة "
.
ولأن القمع لا
يلد إلا القمع، فإن ما تزرعه الدولة اليوم من عنف لن يحصد إلا مزيدًا من الغضب،
الشباب الذين يتعرضون اليوم للضرب في الشوارع، هم نفسهم الذين سيحملون غدًا جراحًا
عميقة ضد وطن لم يحتضنهم، لقد قالت "أم كلثوم" ذات يوم في أغنيتها
الخالدة "إنما للصبر حدود"، والواقع أن صبر المغاربة قد بلغ هذا الحد
وأكثر، لم يعد ممكنًا أن يستمر المواطن في دفع ثمن الفساد وسوء التدبير، لم يعد
ممكنًا أن يظل الشعب رهينة لمؤسسات فاشلة.
المغرب يحتاج
إلى قطيعة حقيقية مع هذا العبث، إلى إصلاحات جذرية لا ترقيعية، إلى إرادة سياسية
تجعل من صحة المواطن وتعليمه وعدالته أولوية حقيقية لا مجرد شعارات انتخابية،
يحتاج إلى دولة تسمع صوت شعبها بدل أن تسكته، إن الزمن لا يرحم، والتاريخ لا ينسى،
وما لم تفهم الحكومة والدولة أن مستقبلها في شبابها، فإنها ستجد نفسها قريبًا أمام
جيل غاضب لا يرحم، جيل تعلم أن الصبر مهما طال، فإن له حدودًا.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك