بقلم:العلمي الحروني/ منسق تيار اليسار الجديد المتجدد من داخل الحزب الاشتراكي الموحد
يقدم المؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود Emmanuel TOD مقاربة مثيرة للجدل حول النسوية المعاصرة، إذ يذهب إلى أن ما يسمى "البطريركية" لم يكن يوما منظومة صلبة ومستمرة تاريخيا بالشكل الذي تصفه بعض المقاربات النسوية. ويعتبر أن علاقة النساء بالتحرر أكثر تعقيدا من السرديات الثنائية السائدة.
وفي ذلك، ينتقد هذا المفكر ويفكك ما سماه " "أسطورة" البطريركية التي تتبناها الحركة النسوية المعاصرة، بحيث انتقل طود من السجال الإيديولوجي إلى إعادة بناء التاريخ، حيث يشدد على أنه لم يكتب كتابه "أين هن الآن؟" بصفته منخرطا في معركة إيديولوجية مع النسوية، بل باعتباره باحثا أعاد قراءة تاريخ العلاقات بين الجنسين على مدى 100 ألف سنة، والقواعد الأنثروبولوجية للأسر البشرية كما تظهر في قاعدة البيانات الإثنوغرافية لـ "مردوك" (Murdock)عالم الأنثروبولوجيا الذي أنشأ قاعدة بيانات ضخمة تعرف بـ "الأطلس الإثنوغرافي"، وبالنسبة له، هذا العمل البحثي يبعده عن "الانفعال النسوي/المضاد" ويقربه من تحليل بارد للمعطيات.
يرى هذا المفكر أن موجة #MeToo وما تلاها من تصاعد خطابات نسوية "عنيفة"، في فرنسا مثلا، هي شرارة تدفع إلى الفهم، لقد كانت صادمة له كباحث، لأنها تتناقض مع الصورة التاريخية الطويلة لعلاقات النساء والرجال في فرنسا، والتي يصفها بأنها تقليد من "الود الصراعي": أي علاقة فيها خلافات وطلاق و نزاعات، لكنها ليست قائمة على العداء البنيوي بين الجنسين. ويطرح السؤال: لماذا ظهر هذا النسق العدائي في فرنسا الآن، رغم أنه ليس متجذرا في تقاليدها؟
جوابا على هذا السؤال، ينتقل تود إلى أطروحته الأساسية: أطروحة "المركزية الطبقية" بدل أطروحة "البطريركية البنيوية"، يؤكد من خلالها أن الصراعات النسوية الحالية في فرنسا هي نتاج أزمة طبقية عميقة وليست نتاج بنية بطريركية.
يشرح ويبرهن على أطروحته من خلال ثلاثة نقاط: الأولى أن النساء حققن في الأربعين سنة الأخيرة تفوقا تعليميا واضحا على الرجال في كل البلدان، ثانيا أن كثير من النساء من الطبقات الوسطى اكتسبن هوية طبقية فردية جديدة وثالثا أن الطبقة الوسطى تعيش أزمة اقتصادية ومكانة اجتماعية متراجعة. وبالتالي تولد توتر ثقافي يعاد توجيهه نحو موضوع "الهيمنة الذكورية"، رغم أنها أصبحت في المناطق الواسعة من المجتمع مجرد "قشرة متبقية" باستثناء 4% من الأطر العليا في الاقتصاد الممسوكة فعليا بيد الرجال في فرنسا حيث نطاق دراسة المفكر طود. هكذا استنتج إمانويل طود أن النسوية العدائية في فرنسا ليست معركة ضد منظومة ذكورية كاسحة، فهو يراها انعكاس توتر طبقة اجتماعية تبحث عن عدو مناسب.
من جهة أخرى، وفي سياق توضيح الفرق مع البطريركية البروتستانتية في العالم الأنغلوساكسوني، يؤكد طود على أنه وخلافا لما يقوله بعض النقاد، أن فرنسا لا تستورد النسوية العدائية من الولايات المتحدة، لأن جذور النسوية الأمريكية مختلفة جذريا لماذا؟ لأن العلاقات بين الجنسين، في الولايات المتحدة وبريطانيا، محكومة تاريخيا بالمسيحية البروتستانتية هذا من جهة، وأ البروتستانتية الباكرة (لوثر و كالفن) كانت تقوم على نموذج ذكوري صارم وتدين مضبوط وهيمنة رمزية ثقيلة. هذا ما أفرز تاريخيا علاقات بين الجنسين أكثر انفصالا وحدة: نموذج "المنفصلين تحت نفس السقف".
لذلك، النسوية في العالم الأنغلوساكسوني ذات طابع بنيوي أكثر وتستند إلى صراع تاريخي حقيقي، أما في فرنسا، فلا توجد هذه الجذور، ما يجعل طود يرى أن استيراد النسوية العدائية لا يستند إلى تاريخ محلي.
في أطروحته، تناقضات النسوية المعاصرة ينتقد إمانويل طود ما يسميه "الهجنة الإيديولوجية" للنسوية الحالية، إذ من جهة، تصور الرجل/كشريك/أب "خطر" أو "مشكلة"، ومن جهة أخرى، تعتبر أن الصراع بين الجنسين "متجاوز". فهي بذلك تتبنى خطابا ضد الذكورة، لكنها في الواقع تعكس توترا خاصا بالطبقة الوسطى وليس وضعا بنيويا عاما. هكذا يرى طود أن هذا التناقض دليل على تشتت المرجعيات داخل النسوية الجديدة.
خلاصة القول، فإن طرح تود يتمحور حول فكرتين أساسيتين:
أولا- لا توجد بطريركية شاملة متواصلة تاريخيا كما تروج بعض السرديات، وأن كل ما هناك عبارة عن متغيّرات حضارية تؤثر في العلاقة بين الجنسين.
ثانيا - النسوية العدائية في فرنسا اليوم ليست تجليا لمقاومة هيمنة ذكورية عميقة، أكثر مما هي انعكاس أزمة طبقية، وتحديدا أزمة الطبقة الوسطى المتعلمة.
هكذ، لا تنكر مقاربة طود وجود مظاهر تمييز وقهر ضد النساء، لكنها تعيد تفسيرها ضمن ديناميات طبقية وهوياتية وتاريخ حضاري طويل، فلا ترى الصراع بين النساء والرجال كصراع "إنثروبولوجي" أصيل إذ هي في العمق نتاج سياقات اجتماعية واقتصادية متغيرة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك