
بقلم : شكري مصطفى
يقدّم المغرب
نفسه اليوم كبلد قادر على تنظيم كأس العالم 2030، ويتحدث الإعلام الرسمي عن حدث
تاريخي سيضع البلاد في مصاف الدول الكبرى، وكأنّ هذا الشعب يعيش في رخاء وازدهار،
وكأنّنا تجاوزنا مشاكل الفقر والبطالة والفساد وسوء الخدمات العمومية. في حين أن
الواقع أبعد ما يكون عن هذه الصورة الوردية التي تُباع للمغاربة كل يوم تحت غطاء
«الإنجازات». المخزن يريد أن يُخدّر وعي الناس بالأضواء والملاعب الضخمة، ليُخفي
تحت العشب الأخضر هشاشة البنية الاجتماعية، وعمق الجرح الذي ينزف في هذا الوطن منذ
عقود.
منذ سنوات
والمغاربة يعيشون تناقضًا صارخًا بين ما يُروَّج في الإعلام الرسمي وما يعيشه
المواطن في حياته اليومية. فبينما تُنفق المليارات في الترويج لتنظيم المونديال،
هناك ملايين من المغاربة لا يجدون سريرًا في المستشفى، ولا عملًا يضمن لهم
كرامتهم، ولا مدرسة عمومية تليق بأبنائهم. ما الجدوى من كأس العالم إذا كان الشباب
الذي سيصفقون في المدرجات لا يجدون ثمن الخبز أو النقل أو الدواء؟ وما فائدة ملاعب
من ذهب إذا كانت المستشفيات من طين؟ هذه هي المفارقة التي يريد المخزن أن يغطيها
بالدعاية، لكنه لا يستطيع أن يخفيها عن الوعي الشعبي الذي بدأ يستيقظ.
المونديال ليس
مشروعًا رياضيًا كما يُروَّج، بل مشروع سياسي في المقام الأول. الغاية منه ليست
تنمية الرياضة أو دعم الشباب، بل تحسين صورة النظام في الخارج وتلميع وجهه أمام
العالم. سيقال إن المغرب بلد مستقر، منفتح، قادر على التنظيم، بينما في الداخل
تُغلق أفواه المنتقدين وتُكمّم الأصوات الحرة وتُحاصر الصحافة المستقلة. سيقال إن
المغرب ينهض اقتصاديًا، بينما الفوارق الاجتماعية تتسع والفقر يزداد والطبقة
الوسطى تختفي تدريجيًا. سيقال إننا في طريق التنمية، بينما المدن الهامشية غارقة
في البطالة والغلاء والتهميش. إن تنظيم كأس العالم في بلدٍ بهذا الوضع ليس مجدًا،
بل عبثًا وتناقضًا أخلاقيًا فادحًا.
الذين يتحدثون
عن الأرباح الاقتصادية للمونديال ينسون أو يتناسون أن أغلب الصفقات في هذا البلد
لا تمر عبر الشفافية والمنافسة النزيهة، بل عبر العلاقات والمصالح والولاءات.
المال الذي سيدخل سيعود إلى جيوب نفس الوجوه التي اعتادت أن تحتكر كل المشاريع.
أما المواطن العادي فلن يستفيد إلا من الغبار الذي يتركه موكب الأثرياء وهو يمر
أمامه. سيُقال لنا لاحقًا إن المونديال جلب الاستثمارات وخلق فرص الشغل، لكننا
نعرف أن هذه اللغة ليست سوى غطاء لتبرير الهدر والنهب والفساد. كل درهم يُصرف باسم
التنمية الرياضية هو درهم يُسحب من التعليم والصحة والسكن والعمل. وكل ملعب يُبنى
هو مستشفى لم يُبنَ، وكل فندق يُرمّم هو مدرسة أُهملت.
كرة القدم
تحولت إلى أداة سياسية بامتياز. بعد كل أزمة اقتصادية أو اجتماعية، يجد المخزن في
كرة القدم وسيلة لتسكين الغضب الشعبي. انتصار صغير يكفي لتغرق البلاد في موجة من
التصفيق والتهليل، حتى ينسى الناس ما يعانونه من قهر يومي. لكن المغاربة اليوم
أكثر وعيًا من أي وقت مضى، يعرفون أن البطولة الحقيقية ليست على العشب، بل في
القدرة على توفير حياة كريمة. يعرفون أن الفرح الحقيقي لا يأتي من هدف في مرمى
الأرجنتين، بل من إصلاح مستشفى في تاونات أو مدرسة في زاكورة. يعرفون أن الكأس
التي ترفعها النخبة في المنصة لا تعني شيئًا إذا كان المواطن البسيط لا يستطيع رفع
رأسه من ثقل الحاجة.
إن كأس العالم
الحقيقي هو الصحة العمومية حين يجد المواطن علاجًا دون إذلال. كأس العالم هو
التعليم العمومي حين يتعلّم ابن الفقير جنبًا إلى جنب مع ابن الغني في ظروف
متساوية. كأس العالم هو الرخاء حين يتمكن الشاب من العيش بعرق جبينه، لا بانتظار
معجزة. كأس العالم هو الشغل حين يجد كل شاب مكانه في الوطن بدل أن يحلم بالهجرة أو
الموت في البحر. كأس العالم هو الحرية حين يتكلم الناس بلا خوف ولا رقابة. كأس
العالم هو العدالة الاجتماعية حين لا يُكرَّم الفاسد ويُهان الشريف. هذا هو
المونديال الذي نريده، المونديال الذي يبدأ من الإنسان لا من الصورة، من المدرسة
لا من الملعب، من المستشفى لا من المنصة.
أما الذي
يُنظَّم باسم الشعب دون أن يستفيد منه الشعب، فليس شرفًا بل خداعًا. المخزن يظن
أنه بشراء الأضواء سيُطفئ نار الغضب، لكنه ينسى أن الشعوب لا تُخدع إلى الأبد. قد
ينجح في تزيين الواجهة، لكنه لا يستطيع أن يُخفي التشققات العميقة في جدار الوطن.
يوماً ما، حين تنطفئ أضواء الملاعب وتنتهي الأناشيد، سيبقى السؤال معلّقًا في
وجدان المغاربة: ماذا فعلتم ببلدنا؟ ومتى تفهمون أن الكرامة أغلى من كل كأس في
الدنيا؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك