الرقص الصوفي

الرقص الصوفي
بانوراما / الأحد 12 أكتوبر 2025 - 13:42 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم : مصطفى شكري

الحضرة والرقص الصوفي من أرقى صور التعبد الروحي في الطرق الصوفية، وهي ممارسات تهدف إلى رفع الروح وتنقية القلب وتحريك النفس نحو الله تعالى، بحيث تتجلى التجربة الروحية للمريد في الانصهار الكامل مع ذكر الله. هذه الممارسات تجمع بين ما هو مشروع في الشرع وبين التجربة الروحية العميقة التي يسعى إليها المريد لتحقيق التوفيق بين القرب من الله والسلام الداخلي، والوصول إلى حالة من الفناء في الحق تعالى.

وقد أثارت هذه الممارسات جدلاً بين العلماء على مر العصور، لكن جمهور علماء الصوفية، بما فيهم ابن القيم، عبد القادر الجيلاني، ابن عربي والحلاج، أكدوا أن الجوهر الروحي لهذه الممارسات هو التقرب إلى الله وتهذيب النفس والروح، شرط أن تكون ضمن ضوابط الشرع، بعيدًا عن المحرمات وركوب الملذات الدنيوية، مع إخلاص النية وتحقيق التوازن بين المشروعية والتجربة الروحية.

الحضرة في الصوفية هي جلسة ذكر جماعي تتضمن تلاوة أذكار الله وأسمائه الحسنى، الصلاة على النبي ﷺ، الإنشاد الروحي والمدائح النبوية، وأحيانًا حركات جسدية موزونة أو تصفيق، بحيث تكون هذه الحركات وسيلة لتصفية القلب وتهيئة النفس لتلقي أنوار الله.

يرى ابن القيم في "مدارج السالكين" أن الحضرة تقوي حضور القلب وتجعل النفس أكثر استعدادًا لتلقي أنوار الله، وتربط المريد بذكر الله الجماعي، بينما يؤكد الشيخ عبد القادر الجيلاني في "الفوائد الجيلانية" أن الجماعة في الذكر تعمل على تهذيب الروح ورفع الطاقة الروحية، ويصف ابن عربي في "الفتوحات المكية" الحضرة بأنها وسيلة لتحقيق وحدة المريد مع الحق وتحريك القلب نحو الطاعة والخشوع.

ويشير العلماء إلى أن الحضور الجماعي للذكر يخلق تفاعلًا روحيًا فريدًا بين القلوب، بحيث تتناغم النفوس في الانصهار مع ذكر الله، ويصل المريد إلى حالة يسمونها حضور القلب، وهي أقرب ما يكون إلى حالة الفناء في الله.

الرقص الصوفي أو الدوران هو حركة موزونة يقوم بها المريد أثناء الذكر الجماعي، ويهدف إلى تحريك القلب نحو الله والوصول إلى حالة الفناء في الله، أي الانصهار الروحي الكامل في ذكر الله، وتعزيز حضور القلب والروح.

وقد تختلف الممارسات بحسب الثقافة والطرق الصوفية؛ ففي الطرق المولوية والشاذلية والزوايا الصوفية التقليدية يُعتبر الدوران وسيلة لإدراك حضور الله في القلب وتحريك النفس نحو الفناء، بينما في بعض المناطق الغربية والشمالية قد تكون الحركات أكثر تواضعًا، مصحوبة بالإنشاد الروحي أو التصفيق، بهدف تحقيق التوازن بين الحركة الجسدية، التوفيق الروحي، والسلام الداخلي، مع الحفاظ على الالتزام بالشرع والبعد عن المحرمات.

يشير ابن عربي إلى أن الحركات الموزونة مقبولة إذا كانت وسيلة للوصول إلى الفناء في الله، بينما يرى الحلاج أن الصوت والجسد في الذكر جائز إذا كانت النية خالصة لله، ويؤكد ابن القيم أن أي فعل يقرب الإنسان من الله مباح إذا لم يخالف الشرع.

ويستدل على ذلك بآيات القرآن الكريم مثل قوله تعالى: "الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم"، والتي تعني أن الذكر مشروع في جميع الوضعيات، سواء بالقيام أو القعود أو الاستلقاء على أحد الجوانب، وأن الله يحب ذكره في كل الأحوال.

وتدل الآية أيضًا على أن الذكر يشمل جنوده وأنصاره في الطاعة، أي الذين يسعون بصدق لتقوى الله في جميع جوانب حياتهم، سواء بالحضرة أو بالرقص الموزون أو بأي عبادة ترفع القلب إلى الله. كما تؤكد آيات أخرى مثل: "الذين آمنوا واطمأنّت قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" و"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" على أن الذكر الجماعي هو سبيل لتحقيق السلام الداخلي والقرب من الله، ويُبرز أثر الذكر على النفس والعقل والروح، ويقوي الصلة بين المريد وربه، ويجعله أكثر قدرة على مواجهة هموم الحياة بثبات وطمأنينة.

 

الرقص الصوفي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخشوع والذِكر القلبي، حيث يرى العلماء أن الجسد إذا تحرك بوعي وتركيز، يصبح وسيلة لتصفية القلب، ورفع النفس إلى الله، وليس مجرد حركة جسدية. هذا ما يُعرف عند الصوفية باسم الرقص القلبي، أي أن كل حركة جسدية تصاحبها نية صافية وتحريك للروح نحو الله، تصبح عبادة شرعية ذات أثر روحاني بالغ. ولذلك، يشدد العلماء على أن الاعتدال في الحركة والصوت، والابتعاد عن الرياء والغناء الفاحش، والالتزام بالشرع، شرط أساسي لقبول هذه الممارسة.

الضوابط الشرعية للحضرة والرقص الصوفي تركز على النية الخالصة لله، والاعتدال في الحركة والصوت، والابتعاد عن التفاخر أو التسلية الدنيوية، والتركيز على الهدف الروحي والتقرب إلى الله. هذه الضوابط تحقق التوفيق بين المشروعية الشرعية والسكينة الداخلية للمرء، وتضمن أن الحضرة والرقص الموزون وسيلة لتصفية القلب وتهذيب النفس وتعزيز الطمأنينة الداخلية، وليس مجرد متعة جسدية أو صوتية، بل هي وسيلة للوصول إلى القرب من الله والفناء في ذكره.

وقد استندت هذه الممارسات إلى كتب الصوفية الكلاسيكية مثل "مدارج السالكين" لابن القيم الجوزية، و"الفوائد الجيلانية" للشيخ عبد القادر الجيلاني، و"الفتوحات المكية" لابن عربي، إضافة إلى رسائل الحلاج وكتب الصوفية المعاصرة عن الحضرة والرقص، لتكون مرجعًا أكاديميًا رصينًا لكل من يود دراسة هذه الظاهرة الروحية من منظور شرعي وروحي متوازن، يربط بين المشروع والتوفيق الروحي والسلام الداخلي، ويبين كيفية تحقيق القرب من الله وطمأنينة القلب والنفس في جميع الممارسات الصوفية.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك