بقلم :الدكتور محمد أحدو
لقد
شكّلت السياسة الحضرية الكولونيالية في المغرب، أداة محورية لترسيخ الهيمنة
الفرنسية والتحكم في المجال والسكان بالمغرب . لم يكن التخطيط العمراني مجرد مسعى
للتنظيم، بل كان هندسة اجتماعية واقتصادية ارتكزت على مبدأين أساسيين متداخلين:
الفصل المجالي الثنائي (Dualism) بين المدينة المغربية التقليدية ، والمدينة
الجديدة على المقاس المعماري الاوروبي والتسخير الوظيفي والاقتصادي القائم على
التمييز بينهما ، وكلاهما يخدم هدف السيطرة الشاملة.
إن
التوجه الأول تمثل في الفصل الممنهج بين المكون الأوروبي والمكون المغربي. فتم
إرساء المدن الجديدة (Villes Nouvelles)
المخططة والمجهزة بأحدث البنى التحتية (شوارع واسعة، صرف صحي، كهرباء) لتكون فضاءً
حصرياً للعيش الأوروبي ومراكز للإدارة والسلطة.
في
المقابل، عُوملت المدن العتيقة القديمة بأسلوب التجميد والإهمال المتعمد لبنيتها
التحتية، حيث نظر إليها المعماريون الكولونياليون، بتوجيه من الجنرال ليوطي
ومخططات هنري بروست، كمتاحف حية يجب الحفاظ على طابعها التقليدي، في حين كان الهدف
الفعلي هو دفع النخب المغربية نحو الفضاءات الحديثة وتسهيل مراقبة السيطرة على
التوسع الحضري.
كما
تعمق هذا الفصل بخلق الأحياء الإثنية (Quartiers Ethniques)
والمناطق الهامشية مثل "الكاريانات"، وهي أحياء أُعدت لإسكان العمال
المغاربة والمهاجرين القرويين، والتي افتقرت للخدمات الأساسية، مما ضمن توافر يد
عاملة رخيصة دون دمجها في الحياة المدنية الأوروبية.
أما
التوجه الثاني فكان مرتبطاً بتسخير المجال لخدمة المصالح الاقتصادية والعسكرية
الاستعمارية؛ إذ وجه التخطيط الحضري نحو دعم استغلال الموارد. فتم تعزيز دور مدن
الموانئ كالدار البيضاء لتكون نقاط انطلاق لتصدير المواد الخام، وبُنيت شبكة نقل
عصرية (طرق وسكك حديدية) تربط مناطق الإنتاج مباشرة بهذه الموانئ، متجاوزة شبكة
الطرق التقليدية. كما أُسست مركزية إدارية وسياسية جديدة، حيث أصبحت الرباط مركز
الحكم في عهد الحماية والدار البيضاء المركز الاقتصادي والصناعي الأهم.
وفي جوهره، لم يكن الفصل الحضري مجرد تنظيم مكاني، بل كان أداة لترسيخ الهيمنة الايديولوجية والاجتماعية. فـ هندسة الفصل عكست تفوق السلطة الأوروبية المرئي، بينما عملت على تفكيك البنية الاجتماعية التقليدية للمدن وتسهيل مراقبة السكان. وفي هذا الإطار، استُخدمت السوسيولوجيا الكولونيالية لدراسة الهجرة وتكوين الأحياء الإثنية كوسائط لـ "إدماج" القرويين في المنظومة الجديدة، لكن تحت رقابة مشددة، محولة بذلك المدينة إلى أداة مزدوجة لـ المعرفة والتحكم في السكان والموارد.
(1) أحدو محمد " توجهات السياسة الحضرية الكولونيالية بالمغرب" منشورات الزمن (سلسة شرفات عدد 80، أكتوبر 2016.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك