الغباء النافع: فنّ الحكمة في التغافل، قراءة في استراتيجية "الإستغباء الذكي"

الغباء النافع: فنّ الحكمة في التغافل، قراءة في استراتيجية "الإستغباء الذكي"
مقالات رأي / الجمعة 31 أكتوبر 2025 - 09:01 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

​بقلم : د . محمد أحدو

​من المراجع الأكثر إثارة التي صادفتها في تناول موضوع فوائد التظاهر بالغباء، ما قدمه الفيلسوف الإنساني إيراسموس الروتردامي (Érasme) في عمله المثير للجدل "مديح الحمق" (L'Éloge de la Folie) الذي نُشر أول مرة في عصر النهضة عام 1511م وتمت ترجمته (1). لقد أكد إيراسموس أنه لمن الحكمة البالغة أن نتفطن إلى أنَّ الذكاء ليس دائماً العملة الأكثر رواجاً في سوق التفاعلات البشرية، وأنَّ الفهم الصريح قد يكون سيفاً ذا حدين يجرح صاحبه قبل أن يضر غيره.

هذه النظرة الفاحصة والعميقة هي ما يميز العقل الحكيم الذي يدرك قيمة التقليل من الفهم كآلية دفاعية واستراتيجية هادئة لتحقيق الأهداف. إن التظاهر بالغباء عند إيراسموس ليس نقصاً، بل هو مستوى متقدم من الذكاء الاجتماعي، يتيح للفرد أن يتنقل بين الأفراد والظروف بمرونة لا يمتلكها المتذاكي الذي يسعى لإثبات نفسه في كل محفل.

هذه المقدرة على ارتداء قناع البساطة، يرى إيراسموس أنها تقوم على فكرة أن الفرح والرضا وحتى استقرار المجتمعات البشرية لا يقوم على الفطنة التامة والتعقيد المفرط، بل يستند في جوهره إلى قدر من الغفلة والتغاضي.

​وبالبناء على هذا المرجع الفكري، ندرك أن الغباء النافع هو تلك المساحة الآمنة التي نخلقها لأنفسنا في وجه عالم لا يرحب دائماً بالعباقرة الصارخين. فالتظاهر بعدم الفهم يمنحنا فرصة ثمينة لـ تجنب إرهاق نوايا الغير؛ فعندما نظهر أننا لم نلتقط الإشارة الخفية، أو لم ندرك المخطط الدقيق، يشعر الآخر بالأمان الكافي ليُكمل كشف توجهاته وأجندته، دون حذر أو تحفظ. في تلك اللحظات، يتحول المستغبِي إلى مراقب محترف، يجمع الأدلة ويحلل الدوافع في صمت الملاحظة، بينما ينشغل الطرف الآخر بـ "غبائه الظاهر".

​إن فوائد هذا التغافل الاستراتيجي لا تقتصر على جمع المعلومات فحسب، بل تمتد لتشمل الحماية الذاتية. فالذكاء الحاد يجعل صاحبه هدفاً للغيرة والمنافسة، ومركزاً لسقف التوقعات المرهق. بالتظاهر بالغباء وفق تصور إيراسموس، فإننا نخفض من سقف التوقعات المفروضة علينا، ونصبح أقل تهديداً للآخرين، فنبتعد عن دائرة الصراع والمكائد التي ينسجها الحسد. وهذا التخفي ليس جبناً، بل هو تكتيك القائد الذي يتحرك بذكاء خلف الكواليس، تاركاً لغيره ضوضاء المقدمة. فمن الذكاء أن تجعل الآخرين يظنون أنهم هم من توصلوا إلى فكرة ما، أو أنهم الأذكى في الموقف، فيما أنت توجه دفة الحوار بهدوء نحو مرادك.

في المحصلة، إن فن التظاهر بالغباء هو دليل على أنَّ الحكمة لا تكمن دائماً في إظهار كل ما نعرف، بل في إدراك قيمة الصمت، والتغافل، وترك الآخرين يتألقون بحماقاتهم الصغيرة، بينما ننجو نحن بسلام وهدوء، مستمتعين بسلام داخلي دون ضجيج يسترعي الانتباه.

​(1) Érasme (إيراسموس)، L'Éloge de la Folie، ترجمة وتقديم: Pierre de Nolhac، Éditions Flammarion، 2016.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك