بقلم : دكتور محمد أحدو
إن الإصرار
على قراءة المبادرات الصادرة عن الحقل الثقافي حصراً من المنظار السياسي يمثل إحدى
الآفات الاجتماعية العميقة، حيث يطغى تحليل النوايا المسبقة على تحليل الوقائع
الملموسة للعمل الإبداعي. هذا النمط من التعامل يشي بقصور في الإدراك يفشل في
الاعتراف بالثقافة كـقوة فاعلة ذات استقلال نسبي، قادرة على التوجيه والتشكيك
بعيداً عن حسابات الأعباء السياسية ومصالحها المتضاربة .
إن وسم أي فعل
ثقافي بأنه يحمل خلفية سياسية داعية له هو نتيجة طبيعية لعقود من محاولات تدجين
الثقافة وتطويعها لخدمة الأجندة الرسمية ، مما خلق حالة من الشك المزمن تجاه أي
إنتاج فكري لا يتماشى مع السرديات المهيمنة.
صحيح أن
العلاقة بين الثقافة والسياسة هي علاقة تداخل حتمي لا انفصال مطلق؛ فالنخب الفكرية
غالباً ما تنتمي إلى مدارس فكرية تتبنى قضايا العدالة الاجتماعية والإصلاح،
وتتماهى مع تطلعات الطبقات المتوسطة والمهمشة، وهذا هو جوهر دور المثقف في كل
المجتمعات الديمقراطية . لكن هذا التماهي لا يعني التبعية الحزبية أو التخطيط
المباشر.
فكما يوضح
علماء الاجتماع من أمثال بيير بورديو في تحليله للحقل الثقافي، يسعى هذا
الحقل جاهداً لفرض منطقه الخاص والحصول على استقلاله عن ضغوط الحقل السياسي
والاقتصادي. إن المثقف، من خلال امتلاكه للرأسمال الرمزي، يُصبح بالضرورة قوة
نقدية معارضة، وفعله النقدي هذا يفسَّر بالخطأ ، او يراد تفسيره قصرا على أنه فعل
سياسي تحزبي مباشر، بينما هو في العمق فعل يسعى - في حالات كثيرة حين ينأى المثقف
بنفسه عن الفعل السياسي كما يمارس -
لاعادة بناء الوعي العام حول قضايا الديمقراطية والإصلاح كإعلان صريح على
فشل السياسي في النهوض باحوال المجتمع.
لقد أدت
حالة الإفلاس السياسي وتدني مستوى التسييس في مجتمعاتنا مؤخراً إلى انفصال غير
مباشر بين المثقف و"السياسة التدبيرية"، وهو انفصال لا يعني تخلي المثقف
عن قضايا المجتمع، بل هو محاولة لإعادة رسم العلاقة على أسس أكثر نقدية وأصالة.
فبدلاً من
الانخراط في اللعبة السياسية اليومية التي تفتقد للظوابط واخلاقيات الفعل السياسي
السليم ، عاد المثقف ليؤكد على أن مجال السياسة سيظل موضوعاً أساسياً للتفكير
والتحليل، وأن الثقافة ينبغي أن تكون عامة أساسية في توجيه الفعل السياسي، أي أن
تمنحه البعد الأخلاقي والإنساني اللازم.
إن الحكم على
مبادرات ثقافية كإقامة متحف، أو مهرجان فني، أو ورشة عمل حول التسامح، او انجاز مؤلف جماعي لا يجب أن يُختزل في البحث
عن "الجهة الداعية والمشاركة " أو "الهدف السياسي" و"
توجهات الأطراف وقناعاتهم " لها، بل
يجب تقييمها بناءً على قدرتها على تحقيق التنمية البشرية وإثارة التفكير النقدي،
وهو ما تتجسد فيه روح السياسات الثقافية التنموية التي سعت دول قبلنا لتحقيقها و
بالتالي، فإن الاستمرار في الحكم على الثقافة بالمنظار السياسي الأحادي هو استمرار
لتكريس الوصاية عليها، وإضعاف لدورها الأصيل كـقوة تغيير حرة ومستقلة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك