
بقلم : د.محمد أحدو
مفهوم "الحشود السائلة " مع السوسيولوجي البولندي زيجمونت باومان: كيف تُفكك التعبئة الافتراضية عير منظومة
التواصل الحديثة التي توفرها التقنية جسر الإصلاح وتُسلمه للتخريب
لقد غيّرت التقنية الحديثة جوهر العمل السياسي، فباتت التعبئة
الجماهيرية تُدار من خلف الشاشات، في فضاء يفتقر إلى القيادة والمسؤولية.
إن مخاطر الاحتجاجات المجهولة التي تولدها شبكات التواصل الاجتماعي تكمن في
تحويل المطالب المشروعة إلى فوضى عارمة، فالتخريب للممتلكات الفردية والعامة، مهما
كانت مسوغاته، يظل مرفوضاً بكل المعاني الإنسانية والاجتماعية. الاحتجاج غير
المؤطر، وإن كان مشروعاً، يسقط في العرْبَدَة بمجرد أن يكون مصدره مجهولاً، وهي
إحدى النتائج الأكثر خطورة لسيولة التقنية الحديثة.
يبدأ التحليل السوسيولوجي المعاصرة لهذه الظاهرة مع الفيلسوف البولندي
زيجمونت باومان ومفهوم "الحداثة السائلة". فبدلاً من التنظيم
الهرمي الصلب الذي يميز الحركات السياسية التقليدية، تصبح التعبئة الرقمية
"احتجاجاً سائلاً"؛ سريعة الانتشار والتلاشي، وتفتقر إلى الأهداف طويلة
الأمد أو القيادة المركزية ،- ان لم تطور
ذاتها كحركة تنظيمية من عالم الافتراض الى
تعبير اجتماعي وسياسي داخل المجتمع - .
هذا الافتقار التنظيمي يجعل الحركة مهيأة للانزلاق نحو التخريب العرضي غير
الهادف، لأنها تفتقر إلى "الثقل" الايديولوجي الذي يكبح السلوك الفوضوي،
ليصبح الهدف النهائي هو التفريغ العاطفي اللحظي بدلاً من تحقيق المطالب المحددة.
كما يمكن تكييف فكرة غوستاف لوبون حول "علم نفس الحشود"
على الجمهور الرقمي. فشبكات التواصل تُسهِّل عملية نزع التفريد ، حيث يشعر الفرد
في الحشد الافتراضي بأنه جزء من قوة هائلة ومجهولة. هذا الإحساس بالحصانة يحرر
المشاركين من القيود الأخلاقية والقانونية، مما يُفسِّر سهولة الدعوة إلى التخريب
والتخفي خلف حسابات وهمية. وبما أن الداعي مجهول والمشارك غير مرئي، يحدث التخلص
من الشعور بالمسؤولية، أو ما يُعرف بـ انعدام المسؤولية ، مما يؤدي مباشرة إلى
الفوضى والعرْبَدَة التي تعيق أي فرصة للإصلاح الجاد.
أما على الصعيد الفلسفي والسياسي، فإن هذه التعبئة تُعرِّض العمل
السياسي لخطر التآكل. فالتعبئة الرقمية تتحول إلى مجرد "أداء للغضب"
بدلاً من "عمل سياسي" حقيقي، حيث يصبح الغرض منها التعبير عن الاستياء ،
وليس عبر صياغة مطالب سياسية قابلة
للتطبيق.
وعندما توجه التعبئة من قبل مجهولين نحو تدمير الممتلكات بلا هدف واضح، فإن
هذا يعكس نوعًا من العدمية المُقنَّعة؛
حيث تستهدف القوة المُدمِّرة التدمير لذاته. وفي هذا السياق، يتأكد تحليل حنة
أرندت في كتابها "حول العنف"، حيث يتبين أن التخريب المجهول لا يُنشئ
قوة (Power) سياسية قادرة على التفاوض والإصلاح (التي تنبع من العمل المتفق
عليه جماعياً)، بل هو مجرد ممارسة للعنف (Violence) الذي يعيق أي شكل من أشكال
العمل السياسي البنّاء.
إن التعبئة المجهولة عبر الفضاء الافتراضي لا تُمثل ممارسة مشروعة
لحق التعبير ان لم تكن مؤطرة وفق برنامج
وقيادة وتصور واضح للمطالب والمقترحات للتحقيق والتنفيذ ؛ بل هي دعوة مُقنَّعة للفوضى المنفلتة.
فهي تُسقط المطالب النبيلة في فخ التخريب، وتمنع ولادة أي إصلاح حقيقي مبني
على القوة التنظيمية والمسؤولية الواضحة، مما يترك المجتمع عرضة لعبث المفسدين
واستغلالهم للقاصرين والأحداث في واجهة الفوضى.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك