
أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
في البداية لا بد أن نقر بأن الحكاية الشعبية القديمة عن بائع الطماطم أي
"المطيشة" وحماره ليست مجرد طرفة للتسلية، بل رمز عميق لسياسات تدار بها
شؤون الناس.
كان أحد المواطنين البسطاء في "كندا" يملك عربة يجرها حمار، وكان
يبيع الطماطم المعروفة بين الناس بـ"المطيشة"، كل صباح يحمّل بضاعته فوق
العربة، يسرج حماره، ثم ينطلق بين أزقة الحي الشعبي وهو يردد خلف الحمار عبارة
"أرا أرا أرا"، أي تحرك وسر، وحين يصل إلى مكان بداية البيع يشرع في
الصراخ بصوت عالٍ يسمعه كل من في الحي: "ماطيشااا ماطيشااا"، لكن الغريب
أن الحمار يتوقف فجأة.
ينزل الرجل من عربته غاضبًا، ويبرح الحيوان ضربًا حتى يتحرك من جديد، ثم
يرفع صوته بنفس النداء "ماطيشااا ماطيشااا"، ليعود الحمار ويتوقف، ويعيد
الرجل الكرة بالضرب.
استغرب البائع من تصرف حماره، وظل محتارًا في السبب.
وبعدما "ضرب جوج شقوفة"، انتبه إلى أن كلمة "شا" التي
يرددها في صيحة "ماطيشا" تعني للحمار أمرًا بالتوقف، حينها شعر بالذنب
لأنه ظلم حيوانه دون أن يدري، قرر أن يغيّر النداء، فرفع صوته مجددًا لكن هذه
المرة صارخًا، "ماطيرااا ماطيرااا".
ومنذ تلك اللحظة، صار الحمار يسير بلا توقف، وكأن الكلمة الجديدة رفعت عنه
الالتباس، وفهم أن "أراا أراا" توحي للحمار بالسير.
أما الناس في الشرفات فقد أثار انتباههم النداء الغريب "ماطيرا"،
إذ لم يسمعوا من قبل عن خضر أو فاكهة تحمل هذا الاسم، اندفع الفضوليون إلى الشارع،
وسرعان ما تجمهروا حول العربة، يشترون الطماطم بسرعة كبيرة، معتقدين أنها صنف جديد
أو نوع مميز.
ومنذ ذلك اليوم، ذاع صيت الرجل وحماره في الحي، صار الجميع ينتظر قدومه كل
صباح، فقط ليسمعوا صوته المميز وهو يصرخ "ماطيرااا ماطيرااا" ليضحوا،
وهكذا تحوّل سوء الفهم البسيط إلى وسيلة وعلامة إشهارية اشتهر بها البائع، وصارت
"الماطيرا" علامة يعرفه بها الصغار قبل الكبار.
المشهد يعكس السياسة حين تتحول إلى لعبة أصوات، ليس الهدف فيها خدمة
المواطن، بل إيهامه بكلمات مصطنعة وشعارات رنانة، حتى لو لم تكن تتماشى مع الواقع،
"الله يجعل الغفل بين البائع والشاري"، مثل الحمار الذي تحرك مع
"ماطيرا"، المواطن البسيط أصبح يتحرك مع كل شعار جديد وإن لم يفهمه، من
الإصلاح إلى التغيير إلى النموذج..أو النمادج التنموية، وفي كل مرة يكتشف أن ما
صدّقه مجرد خدعة لغوية لإبقائه في الطاعة، لا أكثر.
الغلاء الفاحش الذي ينهك الأسر الكندية اليوم يشبه تمامًا العصا التي
انهالت على ظهر الحمار، الأسعار تُرفع بلا رحمة، المناسبات المتتالية تُثقل الكتف،
والضرائب تستنزف ما تبقى في الجيوب، المواطن البسيط صار مثل ذاك الحيوان المقهور،
لا يعرف لماذا يُجلد ولا لماذا يُقاد، لكنه يسير مضطرًا وراء صوت
"الماطيرا" التي لا وجود لها إلا في مخيلة من اخترعها.
السياسيون اليوم يتقنون تغيير الوجوه كما يغيّر البائع صوته، لأجل البيع
السريع والربح السريع، مرة يتحدثون عن محاربة الفساد، ومرة عن جلب الاستثمار، ومرة
عن دعم الفئات الهشة، لكن في النهاية، لا شيء يتغير سوى الأقنعة، السياسة صارت
مجرد "سيراج" أحذية على الوجوه، كما يقول المثل الشعبي، "لي ما
عندو وجه يتسلفو ويخلي الناس تدفل عليه"، بل تعرف فقط كيف تبيع الوهم وتشتري
الصمت.
القضاء، الذي يفترض فيه أن يكون ميزان العدالة، صار بدوره جزءًا من لعبة
"الماطيرا"، أحكام ظالمة تصدر لخدمة علية القوم، وأراضٍ تُسلب من
أصحابها بقرارات جائرة، وملفات تُطوى مقابل ابتسامة نافذ أو أمر مسؤول، بدل أن
يكون القضاء ملجأ الضعفاء، صار أداة لقهرهم وإخراس أصواتهم، ومتخصص في "صحاب
جوان ودجاجة وبالة تبن" هذا في "كندا".
"ضربو لحلقو ينسى لي خلقوا" في
"كندا"
القدر الذي يصفونه بالمكتوب والمقدر، ليس إلا قدراً مفصلاً على مقاسهم،
للفقراء يقولون "هذا نصيبكم"، بينما لأنفسهم يصنعون قدراً ألماس ومن ذهب
وفضة...، يزرعون الفوارق بين الناس، يشرعنون الفساد، ويجعلون من المهرجانات الماجنة
سياسة، ومن العري سياسة، ومن تدمير التعليم والصحة سياسة، ثم يتحدثون عن القدر
وكأنه منزّل من السماء.
الحياة في الأصل بسيطة وسلسة، لكنهم جعلوها معقدة، ربطوا لقمة الخبز
ببطاقات الدعم، ربطوا الصحة بمواعيد الانتظار الطويلة، وربطوا الكرامة بالولاء،
وهكذا مع الوقت يتعوّد الإنسان على الذل، ويصبح مثل الوعاء الفارغ الذي لا يتحرك
إلا حين يسمع صوت "ماطيرا" أو صفعة عصا، المواطن الكندي اليوم يجد نفسه
أمام واقع مرير، إما أن يقبل بالجلد والصوت ويستمر في السير كحمار صاحبنا مقهورا
بأصوات خارج المعتاد، أو أن يصرخ بصوت أعلى ليكسر هذه الحلقة الجهنمية، غير أن
الصراخ وحده لا يكفي، فلا بد من وعي جماعي يكشف حقيقة "الماطيرا" التي
يبيعونها لنا منذ عقود.
المؤلم أن المواطن حين يشتكي يجد نفسه محاصرًا بخطاب التبرير، يقال له،
"اصبر، هذا ابتلاء"، أو "الدولة تفعل ما بوسعها"، بينما
الحقيقة أن المال يُهدر في مشاريع وهمية، وأن الصفقات تُمنح بالمحاباة، وأن
الخيرات تُوزع على من لا يستحق، كما أن الإعلام الرسمي صار جزءًا من العبة، وكأنه
من يقول للشعب "الماطيرا"، يردد شعارات السلطة، يصنع بطلًا من الفاشل،
ويُلبس الفاسد ثوب المصلح، بدل أن يكون صوت الشعب، صار بوقًا للسلطة يبيع الوهم
ويزين القبح.
التعليم الذي كان منارة أمل صار بدوره ضحية لهذه السياسة، مناهج تُغير كل
مرة، ميزانيات تُهدر، أساتذة يُقهرون، وتلاميذ يضيعون، النتيجة جيل بلا أفق، يركض
وراء "ماطيرا" جديدة اسمها الهجرة، حتى لو كان الثمن الموت في قوارب
البحر .
أما الصحة، فهي حكاية أخرى من حكايات الإهمال، مستشفيات بلا تجهيز، أطباء
منهكون، مرضى ينتظرون بالساعات وربما بالأيام، المواطن الكندي يخرج من المستشفى
كما دخل، بلا علاج، لكنه يسمع وعودًا عن "إصلاح المنظومة"، وعود لا
تختلف عن صرخة البائع "ماطيرا"، مجرد كلمات لا تسمن ولا تغني وإن كانت
غير حقيقية ولا تتناسب مع إسم خضره.
حتى العمل لم يعد حلمًا مشروعًا للشباب.
فرص الشغل نادرة، الوظائف محتكرة، والقطاع الخاص يستغل الأجور الهزيلة، ومع
ذلك يقال للشباب، اجتهدوا، المستقبل أمامكم، بينما الأبواب مغلقة، والمفاتيح بيد
قلة تتحكم في الاقتصاد والسياسة معًا، في الأحياء الشعبية، يعيش المواطن بين بطالة
وفقر وغلاء، يجد نفسه يردد كلمات البائع دون وعي، يسير وراء صوت
"الماطيرا" الجديدة كل موسم انتخابي، ويعود بعد ذلك إلى نفس البؤس،
السياسة صارت عنده مرادفًا للكذب والضحك على الذقون، الطامة الكبرى أن الشعب نفسه
بدأ يفقد ثقته في كل شيء، لم يعد يصدق وعودًا ولا شعارات، صار ينظر إلى كل سياسي
كمن يصرخ "ماطيرا" ليجره من جديد إلى نفس الحفرة، هذا الانهيار في الثقة
أخطر من الفقر نفسه، لأنه يقتل الأمل ويزرع اللامبالاة.
لكن وسط هذا السواد، يبقى الأمل قائمًا في وعي الناس، فكما اكتشف البائع أن
صراخه "ماطيشا" كان سبب توقف الحمار، لا بد أن يكتشف الشعب أن شعارات
السلطة هي سبب توقف حياته، حين يدرك ذلك، سيتحرك بوعي لا بخوف، وبإرادة لا بأوامر،
المستقبل لن يصنعه من يجلدون الحمار ظلما، بل من يفكون قيوده، لن يبنيه من يبيع
الوهم، بل من يزرع الحقيقة، لن يقوده من يصرخ "ماطيرا"، بل من يملك
الجرأة ليقول ، كفى.
إن الحكاية الشعبية ليست عن الحمار والبائع فقط، بل عن كل سلطة في العالم
تستخدم العصا والشعار لقيادة الناس، والدرس الأكبر أن من يسير خلف الصوت دون وعي
سيبقى أسيرًا للجلد والتبعية، اليوم، أمام هذا الواقع، يبقى السؤال الكبير: هل
سيظل الشعب يلهث بمجرد سماع "الماطيرا"، أم أنه سيقرر يومًا أن يغير
المعادلة ويصنع صوته الخاص؟
الجواب سيكون يوما بيد الناس، لا بيد من يصرخون.
سياسة "المَاطِشَااا و المَاطِيرَااا" مستمرة إلى أن تستفيق
الحمير لتفك السلاسل، أو أن تستمر في السير صامتة، تنتظر "جلدة" جديدة
وصرخة جديدة، بينما الكرامة تُباع وتُشترى في سوق السياسة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك