بقلم:سمير بوزيد :
أحد مؤسسي و ونائب رئيس سابقًا الهيئة الوطنية لحماية المال العام .
منذ تأسيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام عام 2006، وأنا أتابع بشغف وقلق عميق كل ما يمس مسار مكافحة الفساد وحماية المال العام في وطننا المغرب. هذه القضية ليست مجرد ملف قانوني أو سياسي، بل هي قضية حياة وكرامة لكل مواطن ومواطنة، لأنها تمس حقنا جميعًا في العيش في بلد يحترم العدالة والشفافية.
اليوم، أجد نفسي أمام تحدٍ جديد يهدد المكتسبات التي ناضلنا من أجلها طويلاً، يتمثل في المادتين 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية. هاتان المادتان تثيران جدلاً واسعًا، ليس فقط في الأوساط القانونية، بل في المجتمع المدني بأسره، حول مدى توافقهما مع دستورنا وحقوق الإنسان، وتحددان بشكل مباشر دورنا كمواطنين في محاربة الفساد.
المادتان 3 و7 تحصران حق تحريك الدعوى العمومية في قضايا الفساد في جهات إدارية محددة مثل المجلس الأعلى للحسابات والمفتشيات العامة، مما يقلص من دور الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني التي كانت على الدوام صوتًا للمواطنين في هذه القضايا الحيوية.
هذا التقييد يتعارض مع روح دستور المغرب لسنة 2011، الذي يكرس الديمقراطية التشاركية ويؤكد على حقنا كمواطنين في المشاركة الفعالة في مراقبة الشأن العام (انظر: دستور المملكة المغربية، الفصل 12، الجريدة الرسمية عدد 5964، 1 يوليوز 2011).
إن تقييد مشاركتنا الشعبية لا يضعف فقط آليات المساءلة، بل يهدد استقلالية القضاء ويقوض قدرة النظام القضائي على محاسبة الفاسدين. وهذا يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب، ويزرع في نفوسنا إحساسًا بالخذلان وضعف الثقة في المؤسسات التي يجب أن تكون حامية لنا.
لا يمكن أن نفصل هذه التعديلات عن السياق السياسي والاجتماعي الذي طرحت فيه، فقد لاحظ العديد من الحقوقيين أن توقيت طرح هذا المشروع يثير أكثر من علامة استفهام.
في هذه اللحظة الحرجة، يجب أن نكون أكثر يقظة، وأن نرفض أي محاولة لتقويض مكتسبات حقوق الإنسان أو تقييد دور المجتمع المدني، خصوصًا في مجال مكافحة الفساد.
المغرب ملتزم باتفاقيات دولية هامة، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تؤكد على ضرورة تمكين المجتمع المدني وضمان استقلالية القضاء (انظر: اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، 2003، المادة 13).
لكن المادتين 3 و7، في صيغتهما الحالية، تتعارضان مع هذه الالتزامات، مما قد يعرض بلادنا لانتقادات دولية ويضعف من مصداقيتها في مجال حقوق الإنسان والشفافية.
كما أن تقييد آليات المشاركة المدنية والرقابة القضائية يهدد حماية الفئات الضعيفة، وخصوصًا النساء والفتيات اللواتي يعانين من أشكال متعددة من التمييز والعنف، ويحتجن إلى حماية قانونية فعالة تضمن لهن العدالة والمساواة.
في ظل هذه التحديات، تبرز آلية الدفع بعدم دستورية القوانين، المنصوص عليها في الفصل 133 من دستور 2011، كأداة دستورية هامة لحماية الحقوق وضمان احترام مبادئ الدستور (انظر: دستور المملكة المغربية، الفصل 133، الجريدة الرسمية عدد 5964، 1 يوليوز 2011).
هذه الآلية تمنح المحاكم الدستورية صلاحية مراجعة النصوص القانونية وإلغائها إذا ثبت تعارضها مع الدستور، مما يعزز سيادة القانون ويضمن حماية الحقوق والحريات الأساسية. لكن، لا يمكننا أن نتجاهل أن تفعيل هذه الآلية يواجه تحديات حقيقية على أرض الواقع. فغياب القانون التنظيمي المنظم لها، وتعقيد الإجراءات، وبطء البت، كلها عوامل تجعل من الصعب على هذه الآلية أن تواكب سرعة وتطور قضايا الفساد. كما أن هناك تساؤلات مشروعة حول مدى استقلالية المحكمة الدستورية وقدرتها على مقاومة الضغوط السياسية والاقتصادية.
للأسف، هذه الآلية لا تزال معطلة عمليًا بسبب غياب قانون تنظيمي واضح ينظم شروط وإجراءات تفعيلها، وهو ما يحول دون استخدامها كأداة فعالة في الوقت الحالي (انظر: مشروع القانون التنظيمي المتعلق بآلية الدفع بعدم دستورية القوانين، وزارة العدل، 2024).
لذلك، أدعو بكل صدق وإلحاح إلى الإسراع في إصدار هذا القانون التنظيمي، مع ضمان توفير الضمانات اللازمة لاستقلالية وفعالية هذه الآلية، حتى لا تبقى مجرد أداة شكلية لا تحقق العدالة المنشودة.
كما أدعو كل من يهمه الأمر، من جمعيات حقوقية ومواطنين غيورين، إلى التعبئة من أجل:
-
تفعيل آلية الدفع بعدم دستورية القوانين بشكل عاجل وفعال.
-
مراجعة المادتين 3 و7 لضمان توافقهما مع الدستور والمواثيق الدولية، وحماية دور
المجتمع المدني.
-
تعزيز استقلالية القضاء وحماية حقوق الدفاع، وضمان محاكمة عادلة.
- حماية الفئات الضعيفة، خاصة النساء والفتيات، عبر تشريعات واضحة وفعالة.
في هذا الإطار، لا يفوتني أن أشير إلى الوقفة الاحتجاجية المزمع تنظيمها أمام البرلمان يوم 14 يونيو 2025، والتي تمثل فرصة سلمية للتعبير عن رفضنا للتراجع في مكتسبات مكافحة الفساد وحماية المال العام، وللفت الانتباه إلى خطورة هذه التشريعات التراجعية.
ومع ذلك، أؤكد أن آلية الدفع بعدم دستورية القوانين ليست الحل السحري الوحيد، بل هي أداة دستورية مهمة يجب تفعيلها، لكن لا يمكن أن نعتمد عليها وحدها. فمكافحة الفساد والدفاع عن الديمقراطية التشاركية يتطلبان إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات شاملة، وتعزيز استقلالية القضاء، ودعم المجتمع المدني، وتطوير التشريعات بما يضمن حقوق الجميع.
في الختام، أؤكد أن محاربة الفساد ليست مجرد شعار نرفعه، بل هي مسؤولية جماعية، ومعركة مستمرة تتطلب منا جميعًا العمل الجاد والتضامن. دستورنا هو الحصن الذي يحمي حقوقنا وحرياتنا، ولا يجوز أن نسمح بتمرير قوانين تُضعف هذا الحصن أو تُقيد أدواتنا في الدفاع عن العدالة والشفافية.
فلنكن صوتًا واحدًا، ويدًا متحدة، من أجل مغرب أفضل يليق بطموحات
شعبه وأجياله القادمة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك