أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/م.إيطاليا
جاء التصريح خلال حفل رسمي بمناسبة يوم الجمهورية الإيطالية، بحضور ممثلين عن عشرات الدول والمنظمات الدولية، ليكتسي الموقف بعدها الرمزي والسياسي الثقيل، ويحوّل المناسبة من لحظة احتفاء وطني إلى منصة للمصارحة الأخلاقية. لم يكن خطابًا عابرًا ولا لغة خشبية، بل كان إدانة واضحة لاستخدام الجوع كسلاح، واتهامًا ضمنيًا لمرتكبي الحصار، وتذكيرًا بأن الإنسانية لا تُقاس بالمصالح ولا تُوزن بموازين النفوذ.
ماتاريلا لم يخاطب جمهوره المحلي، بل وجّه كلامه إلى العالم أجمع، إلى قاعات القرار الدولي، إلى عواصم التخاذل. قالها ببساطة جارحة: “من غير الإنساني أن يُحكم على شعب بأكمله، من الصغار إلى المسنين، بالجوع”. بهذه العبارة، دون مواربة أو حسابات سياسية، وضع يده على الجرح المفتوح منذ أكثر من سبعة أشهر، جرح غزة الذي ما زال يُنزف بصمت أمام أعين العالم، دون علاج أو عدالة، بل بتواطؤ دولي مُعلن أو مستتر.
غزة اليوم محاصرة حتى الاختناق، معابرها مغلقة منذ مارس، والمساعدات الإنسانية تُمنع عنها بقرارات ممنهجة، فلا طعام يصل ولا دواء، ولا حتى قطرة ماء تُترك لأطفالها. العالم المتحضر الذي يدّعي الدفاع عن القيم، يراقب بصمت، يبرّر، يتواطأ، أو يختبئ خلف اللغة الرمادية الباردة التي تساوي بين الضحية والجلاد، وكأن الحقيقة صارت تهمة، والعدل صار انحيازًا، والصمت هو الحياد.
في هذا السياق المتعفن أخلاقيًا، يصبح صوت الرئيس الإيطالي حدثًا نادرًا، وموقفًا يُسجَّل، لأنه قال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله، وواجه ما يتهرب منه آخرون. لم يكتف بالإشارة إلى الكارثة الإنسانية، بل شدد على ضرورة احترام القانون الإنساني الدولي، وعلى حق الفلسطينيين في وطن وحدود معترف بها، رافضًا بشكل ضمني سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل على غزة.
هذا الموقف الإيطالي، رغم محدوديته، يشكل خرقًا في جدار الصمت الأوروبي، لا لأنه جاء من شخصية سياسية عادية، بل لأنه صدر من رئيس دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حيث المواقف الداعمة لإسرائيل تكاد تكون قاعدة ثابتة. أن يخرج ماتاريلا عن هذا السياق الرمادي، وفي مناسبة رسمية، فهو إعلان شرف، وموقف إنساني قبل أن يكون سياسيًا.
ما قاله ماتاريلا لن يغيّر المعادلة الميدانية، لكنه يفتح نافذة صغيرة في جدار سميك من اللامبالاة، ويذكّر العالم بأن هناك من لا يزال يملك الشجاعة ليقول "كفى". حين يُستخدم الجوع كسلاح، ويُمنع الأطفال من الحليب، وتُدفن العائلات تحت الأنقاض، ويُقصف المستشفى والفرن ومخيم النزوح، يصبح الصمت جريمة، والتواطؤ هو اللغة الرسمية.
كلمات الرئيس الإيطالي لم تنقذ أرواحًا في غزة، لكنها أنقذت ما تبقى من شرف الموقف الأوروبي. أعادت التذكير بأن السياسة لا يجب أن تكون دومًا لعبة مصالح باردة، وأن هناك لحظات فارقة يفرض فيها الضمير أن يتكلم، لا بصفته رئيسًا، بل بصفته إنسانًا.
في زمن أصبحت فيه الجريمة تُغلف بالقانون، والقتل يُبرر بالدفاع عن النفس، والاحتلال يُروَّج له كحق تاريخي، يصبح الموقف الأخلاقي النزيه هو العملة النادرة، والصوت المرفوع هو الحد الأدنى من الإنسانية. من قال الحقيقة، حتى وإن تأخر، لا يُغيّر الواقع وحده، لكنه يثبت أن الضمير لم يمت، وأن في هذا العالم، المظلوم لم يُمحَ من الذاكرة بعد.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك