أنتلجنسيا المغرب:عبد الله البارودي
في الأيام الأخيرة من السنة، دخلت الأجهزة الجبائية في المغرب في سباق غير مسبوق لرفع وتيرة ما يسمى بـ“التسويات الودية” مع مقاولات وشركات متهمة بالتهرب الضريبي، في خطوة تكشف حجم الضغوط التي تعيشها الإدارة لرفع مداخيلها بأي ثمن، وتحصيل ما يمكن تحصيله قبل إقفال السنة المالية. التحركات الجبائية الأخيرة لم تعد محصورة في الملفات الروتينية، بل امتدت إلى نزاعات ثقيلة تتعلق بمليارات الدراهم، خصوصاً في المدن التي تعتبر القلب الاقتصادي للمغرب مثل الدار البيضاء والرباط، إضافة إلى طنجة وأكادير ومراكش.
التحقيقات والمفاوضات الجارية شملت فاعلين من قطاعات حساسة: الإنعاش العقاري، البناء، الأشغال، النسيج، الألبسة، التجارة والتوزيع. بعضهم كان موضوع أحكام قضائية نهائية في نزاعات مع الإدارة الجبائية، ورغم ذلك أعيد فتح الباب أمامهم لتوقيع اتفاقات جديدة تضمن ضخ سيولة طازجة في خزينة الدولة. هذه العمليات مكّنت، خلال الفترة الممتدة بين يناير وأكتوبر، من تحصيل مبالغ ضخمة إثر مراجعات ضريبية خضع لها الملزمون، في عملية وصفها كثيرون بأنها “عملية إنقاذ مالي” موجهة أكثر منها تطبيقاً صارماً للقانون.
هذا السباق نحو التسوية لا يخفي هدفاً مركزياً: تخفيف الضغط عن اللجان الجهوية والوطنية المكلفة بالنظر في الطعون الضريبية، والتي تتكدس أمامها ملفات معقدة لا تجد طريقها للحسم. مصالح التتبع داخل مديرية الضرائب تلقت خلال الأشهر الماضية سيلاً من الطلبات من مقاولات صغرى ومتوسطة ترغب في الاستفادة من الاتفاقيات الودية، في مؤشر واضح على حجم الاضطراب الذي يعيشه النسيج الاقتصادي في ظل هاجس مراجعات ضريبية متلاحقة.
ورغم هذا التدفق الكبير، رفضت مصالح المراقبة التعامل مع طلبات تقدمت بها شركات صغيرة دون مواكبة مهنية من مكاتب محاسبة واستشارة متخصصة، معتبرة أن ملفاتها غير مدروسة بشكل يسمح بدخول مفاوضات جدية. في المقابل، رفعت اللجان الجهوية والمركزية من وتيرة اجتماعاتها إلى الحد الأقصى، واستدعت مسؤولين في المصالح القانونية للمشاركة في البت في الملفات التي وصلت مرحلة التقاضي أمام المحاكم.
القانون المنظم للمسطرة الودية يمنح الملزم والإدارة إمكانية التوصل لاتفاق يخص العناصر الواقعية للضريبة دون المسائل القانونية، مقابل تعهد كتابي بالتنازل عن كل مساطر الطعن لدى مختلف اللجان والمحاكم. وهذا الشرط يتم اليوم تفعيله بشكل صارم، حيث يُلزم المستفيدون بتوقيع رسائل تنازل تامة وغير قابلة للتراجع، وهو ما يجعل هذه التسويات، رغم طابعها “الودي”، ملزمة ونهائية.
لكن خلف هذه الدينامية المتسارعة تختفي قضايا أكثر تعقيداً. مبالغ خيالية مستحقة على شركات كبرى، وصيغ الدفع وغرامات التأخير المرتبطة بها، تجعل المفاوضات أشبه بمعارك تفاوضية متوترة. محاضر الاتفاقات التي تم توقيعها خلال الأسابيع الماضية أُرفقت برسائل تنازل شاملة، ما يعكس حجم النزاعات التي تسعى الإدارة لإغلاقها بسرعة قبل نهاية السنة، في خطوة تطرح أسئلة حول مدى انسجام هذه العملية مع مبادئ الشفافية والعدالة الجبائية.
في النهاية، ما يجري اليوم داخل الإدارة الجبائية ليس مجرد “تسوية ودية”، بل مؤشر قوي على حجم الأزمة الضريبية والمالية التي تدفع الدولة إلى استعمال كل أدوات الضغط والتحفيز في آن واحد لملء خزائنها، بينما يبقى السؤال الأكبر مُعلّقاً: هل هي معالجة أم مجرد تأجيل لأزمة أعمق؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك