أنتلجنسيا المغرب: أبو ملاك
كارثة مدينة فاس التي حصدت أرواحًا عديدة وأصابت آخرين أعادت
فتح جرح عميق لطالما تجاهله الجميع، إذ تحولت إلى مشرط تشريح يسلط الضوء على واقع
البناء السكني في المغرب، سواء غير القانوني أو ذاك الذي يبدو قانونيًا لكنه مغشوش
في جوهره ومضمونه.
الكثير من المباني في مختلف المدن تُنجز بغش فاضح، عبر تقليص
كميات الإسمنت، وضعف سماكة الحديد، وتجاوز كل المعايير الأساسية التي تضمن سلامة
السكان، ما يجعل عشرات الآلاف من الأسر تعيش فوق قنابل موقوتة لا تعرف متى ستنفجر.
ولا يتوقف الأمر عند المباني العشوائية، بل يشمل أيضًا العمارات
الجديدة التي يفترض أنها مبنية وفق ضوابط صارمة، ورغم حداثة تشييدها، لا تمر سنوات
قليلة حتى تظهر بها تشققات وتصدعات وتسقط دهاناتها وأقواسها ورخامها، لتنكشف حقيقة
الغش الذي اختبأ وراء واجهات جميلة.
هذه الخروقات، التي تتكرر بشكل مقلق، تدخل — وفق قراءات قانونية
— ضمن الأفعال التي يمكن تكييفها جنائيًا، باعتبارها مشاركة واضحة في مؤامرة تمارس
ضد المواطن المغربي الذي يدفع مدخرات عمره بحثًا عن سكن آمن، ليجد نفسه في النهاية
تحت رحمة شركات نصب واحتيال تبيع الوهم تحت شعار السكن الاقتصادي.
الأدهى من ذلك أن المواطن، بعد اكتشافه الغش، يجد نفسه دون جهة
قانونية تحميه، بينما تتنصل الدولة من مسؤولياتها الرقابية، وتظل اليد الوحيدة
التي تطاله هي يد الضرائب، في مشهد يختزل اختلالًا بنيويًا يطال قطاعًا يفترض أنه
من ركائز الحياة الاجتماعية.
ويتجدد الحديث هنا عن دور الدولة في دعم السكن الاقتصادي، وعن
المستفيدين الحقيقيين من الأراضي التي تُنزع من أصحابها أو من السلاليين بوعود لا
تتحقق، قبل أن تنتقل في النهاية إلى شخصيات نافذة تشكل مظلة حماية لمقاولين حولوا
هذا الدعم إلى مصدر ثراء سريع.
وتكشف المعطيات المتداولة أن تكلفة السكن الاقتصادي الجاهز لا
تتجاوز سبعة ملايين سنتيم، غير أن المستفيدين من الدعم يحصلون على خمسة ملايين
إضافية من الدولة، ليبيعوا الشقق بأرقام تتراوح بين خمسة وعشرين وخمسة وثلاثين
مليونًا، وهو ما يوضح بجلاء كيف تُصنع الثروات الخيالية في هذا القطاع.
وكل ذلك يجري أمام حكومة
تبدو عاجزة عن فتح نقاش حقيقي حول كوارث البناء والغش، تاركة المواطن يواجه مصيره
أمام منظومة متشابكة من المصالح التي تنخر الدولة من الداخل تحت ذرائع واهية، فيما
تستمر الفواجع في تذكير الجميع بثمن الصمت.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك