16 ماي..ليلة دموية في قلب المغرب وبداية التحول الأمني العميق لمواجهة الإرهاب

16 ماي..ليلة دموية في قلب المغرب وبداية التحول الأمني العميق لمواجهة الإرهاب
ديكريبتاج / الخميس 15 مايو 2025 - 20:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:أيوب الفاتيحي

في يوم 16 ماي من سنة 2003، عاش المغاربة واحدة من أشد اللحظات حزناً وألماً في تاريخهم المعاصر، حين هزّت خمسة انفجارات متتالية مدينة الدار البيضاء، كبرى الحواضر المغربية، وخلفت وراءها جراحاً غائرة في الذاكرة الجماعية للأمة.

كانت ليلة 16 ماي أكثر من مجرد اعتداء إرهابي، بل كانت لحظة فاصلة بين مغرب ما قبل وما بعد، إذ دشنت عصراً جديداً في التعاطي مع قضايا التطرف والإرهاب، ودفعت الدولة إلى إعادة هيكلة المنظومة الأمنية بكل مكوناتها.

مجزرة الدار البيضاء: حين استيقظ الوطن على وجع لا يُنسى

نفّذت مجموعة من الشبان المتطرفين، تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة، هجمات انتحارية استهدفت مواقع حيوية بمدينة الدار البيضاء، من بينها مطعم إسباني، ونادٍ يهودي، وفندق "فرح"، والمقبرة اليهودية، ومركز للجالية اليهودية. وأسفرت التفجيرات عن مقتل 45 شخصًا، من بينهم 12 انتحاريًا، وجرح أكثر من 100 آخرين.

كانت الصدمة قوية، ليس فقط بسبب الحصيلة الدموية، ولكن أيضًا لأن المنفذين كانوا مغاربة، ينحدرون من الأحياء المهمشة، مثل "سيدي مومن"، في مشهد غريب عن طبيعة المجتمع المغربي المتسامح والمنفتح.

لقد بدا أن التطرف لم يعد ظاهرة مستوردة، بل أصبح دخيلاً متجذرًا يجد مناخًا خصبًا في الهشاشة الاجتماعية والفكرية.

 ذكرى أراد لها الإرهاب أن تتقاطع مع رمزية الدولة ومؤسساتها الأمنية

لم يكن اختيار تاريخ 16 ماي محض صدفة. ففي اليوم نفسه، تحتفل المملكة المغربية بذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية (1956) وذكرى تأسيس الأمن الوطني. وبدا وكأن منفذي التفجيرات أرادوا توجيه ضربة رمزية مباشرة إلى ركائز الدولة، واختاروا اللحظة التي تستعرض فيها مؤسسات السيادة جاهزيتها وارتباطها الوثيق بالمواطنين.

لكن هذه الحسابات الإرهابية ارتدت على أصحابها، حيث تحولت الذكرى إلى نقطة تحول جذري في تاريخ المغرب الحديث، وانطلقت بعدها مسيرة إصلاحات عميقة في البنية الأمنية، وجرت مراجعة شاملة لمنظومة التدخل، والوقاية، والمراقبة، والتأطير.

 رد الدولة: الحزم مع الجريمة والتوازن مع الحقوق

في أعقاب التفجيرات، أطلق المغرب واحدة من أوسع العمليات الأمنية والاستخباراتية، شملت اعتقالات واسعة وتحقيقات معمقة، مكّنت من تفكيك عدد كبير من الخلايا الإرهابية النائمة. وتم إقرار قانون جديد لمحاربة الإرهاب في يونيو 2003، منح السلطات القضائية والأمنية أدوات قانونية إضافية لمواجهة التهديدات الجديدة.

ورغم الانتقادات التي وُجهت لبعض الإجراءات، خصوصًا في ما يخص الحريات، إلا أن المملكة المغربية نجحت في ضبط توازن دقيق بين ضرورة حفظ الأمن ومراعاة حقوق الإنسان، بفضل إصلاحات مؤسساتية وإشراف مباشر من أعلى هرم الدولة.

 إصلاحات أمنية وهيكلية عميقة: ولادة منظومة أمنية حديثة

أحدثت الدولة تغييرات كبرى بعد تلك الأحداث، شملت:

تعزيز قدرات الاستخبارات المدنية والعسكرية، وتحديث أساليب العمل.

إنشاء المكتب المركزي للأبحاث القضائية (BCIJ) سنة 2015، والذي أصبح بمثابة جهاز “FBI” مغربي متخصص في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.

تطوير البنية التحتية الأمنية، واعتماد تقنيات المراقبة الحديثة.

إدماج مقاربة الوقاية من التطرف، عبر برامج توعية وتأطير ديني وثقافي.

كما تم إحداث نظام أمني متعدد التخصصات، يجمع بين المديرية العامة للأمن الوطني، والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، والدرك الملكي، والسلطات المحلية، في تنسيق دائم ومتكامل.

المجتمع في مواجهة التطرف: دروس ومراجعات

أبرزت تفجيرات الدار البيضاء أن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تُخاض فقط عبر المقاربة الأمنية. لذلك، اتجه المغرب إلى اعتماد سياسة شمولية لمعالجة جذور التطرف، شملت:

إصلاح الحقل الديني بإشراف مباشر من مؤسسة إمارة المؤمنين.

اعتماد خطة لتأهيل الأئمة والوعاظ وتكوين المرشدين الدينيين.

تشجيع التعليم والتثقيف ومناهضة الهشاشة والتهميش الاجتماعي.

وأطلقت الدولة برامج كبرى لمحاربة الفقر، مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفتح المجال أمام المجتمع المدني للمشاركة في تأطير الشباب والحد من تغلغل الفكر المتطرف.

 الذاكرة التي لا تموت

بعد مرور أكثر من عقدين على الجرح الذي خلفته تفجيرات 16 ماي، لا يزال صدى الانفجارات يتردد في الذاكرة الجماعية للمغاربة، كندبة مؤلمة، ولكنها أيضاً كمنارة تُذَكّر الجميع بالثمن الباهظ الذي قد تدفعه الشعوب عندما تُترك بعض الشرائح عرضة للفكر الظلامي.

واليوم، ورغم التحديات الإقليمية والدولية، ما يزال المغرب يُضرب به المثل في كونه نموذجًا ناجحًا في الاستباق الأمني، وفي التوازن بين الأمن والحرية، بفضل ما تراكم من تجارب ودروس منذ تلك الليلة السوداء من ماي 2003.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك