ملف خاص..حارس المجد أسطورة "كفاح" سيدي يحيى الغرب "عبدالله الجزولي"- الشريف (الجزء الخامس)

ملف خاص..حارس المجد أسطورة "كفاح" سيدي يحيى الغرب "عبدالله الجزولي"- الشريف (الجزء الخامس)
تقارير / السبت 26 يوليو 2025 - 07:00 / لا توجد تعليقات:

بقلم : محمد الطالبي

يشار أنه يوم الأحد المقبل 27 يوليو 2025 ، سيقام حفل تكريم للحارس الاسطورة والعملاق، "عبدالله الجازولي" بالملعب البلدي سيدي يحيى الغرب، على الساعة 15:30  عصرا.

في ربيع سنة 1947، بزغ نجم جديد في سماء سيدي يحيى الغرب، حين وُلد "سي عبدالله الجزولي" من رحم أسرة متجذرة في القيم والمعرفة، والده فقيه حامل لكتاب الله من أصول وزانية، ووالدته ذات أصول "تازوطية" غرباوية عريقة، هذا التمازج الروحي والمعرفي شكل تربة خصبة لنمو شخصية استثنائية سيحملها الزمن على أكتاف المجد في الميادين الرياضية.

نشأ "سي عبدالله" وسط حي شعبي لا يملك من الترفيه إلا لعب الكرة البلاستيكية، في فضاءات ترابية مفتوحة أمام منازل المرحومين البزيوي والهوازر، كان صوته يخترق سكون الظهيرة وهو يصرخ فرحًا بركلة أو تصدٍ ناجح، وكأن قدره كان مكتوبًا بين العرق والكرة والتراب.

في سن الرابعة عشرة، التحق بفريق شبان الكفاح، وهناك بدأت مسيرته الحقيقية، تدرب على يد أسماء رسخت في ذاكرة المدينة مثل المرحوم حسن الشتوكي وعبدالحق السباعي، فكان تلميذًا نجيبًا في مدرسة الطموح والمثابرة، إلى أن انتزع مكانه بين الكبار سنة 1964.

مباراته الأولى لم تكن سهلة، إذ خاضها في القسم الشرفي الرابع ضد فريق إدارة السجون على ملعب ترابي بالعاصمة الرباط، هناك، أعلن عن نفسه بقوة، وتصدى لكل التسديدات كأنه حارس جاء من المستقبل، يحمل في يده مفاتيح المجد ومهارات الإبهار.

لم يكن سي عبدالله مجرد حارس مرمى، بل كان شاهدًا على واحدة من أعنف لحظات التوتر الرياضي حين عايش الأحداث الدامية لمباراة الكفاح ضد حسنية سيدي سليمان، رفقة صديقه الحيحي، في لحظة كشفت له الوجه الآخر لكرة القدم المغربية في زمن التحديات.

في الموسم الرياضي 1963/64، عوّض سي عبدالله الحارس المعتزل حسن الزهاني، فكان الشاب الذي لا يتجاوز عمره 17 سنة يذود عن شباك الكفاح كما يذود المحارب عن أسوار قلعته، ومعه سطع اسم الفريق في ربوع المملكة، إلى جانب رفاقه في التشكيلة التاريخية للفريق.

شكلت سنوات 1964 إلى 1967 عصراً ذهبياً في مسار الحارس العملاق "سي عبدالله الجزولي"، إذ ساهم في صعود الفريق من القسم الشرفي الرابع إلى الثالث، بل وشارك في مباراة السد التي أطاحت بشباب العرائش، ليقود الكفاح نحو أمل الصعود، قبل أن تتعثر الخطوة التالية أمام فريق بركان بمدينة تازة.

وفي موسم 1970/71، جاء عرض لا يُرفض، انتقال على سبيل الإعارة إلى اتحاد سيدي قاسم، الذي كان آنذاك أحد أعمدة القسم الوطني الأول، هناك، جاور كبار الكرة الوطنية، من أمثال المرحوم العربي الشباك، وفتاح، وممان، وكحيلو، في تجربة جعلت منه نجمًا وطنيًا يتجاوز حدود سيدي يحيى، ولم يأخذ حقه في بلوغ المنتخب الوطني.

سنة 1971 حملت البشرى الكبرى، حين وجهت الدعوة لسي عبدالله للالتحاق بمعسكر المنتخب الوطني (ب) ومنتخب الأمل، استعدادًا لدوري بالبرازيل دام تسعة أيام كاملة، حيث واجه منتخب الأمل فريق "ريفر بلايت الأرجنتيني"، في تجربة غير مسبوقة لحارس من أحياء سيدي يحيى الشعبية، لكنها تجربة رائعة سجلت في تاريخه الحافل...

وفي تقرير لجريدة "L’Opinion" استغرب الصحفي الفرنسي من دعوة الناخب الوطني عبدالله السطاتي لحارس واحد فقط هو "عبدالله الجزولي"، مما زاد من حجم الضغط عليه، ولكنه أبان عن علو كعبه في بلاد السامبا، حيث خط اسمه بأحرف بارزة في دفتر المنتخب.

بعد سنوات من اللعب والتألق، قرر سي عبدالله حمل المشعل التدريبي، فكان على رأس فريق الكبار في موسم 1978/79، وقاد مباريات الإياب بنتائج باهرة، زرعت الأمل من جديد في نفوس الجمهور وساكنة المدينة، قبل أن يُسلم المشعل للمرحوم عبدالحق كاماك الذي جلبه بنفسه ليخلفه، ورغم انسحابه من التدريب، لم يغب سي عبدالله عن نبض الفريق، ظل يتابع أخبار الكفاح كأب حنون يتفقد أبناءه، متيقنًا أن التضحيات التي قدمها في الميدان لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، وأن الطريق إلى المجد شُقّ بعرقه وأصابعه المتورمة من كثرة التصدي للكرات.

إن ما تحقق في موسم 1978/79 من صعود تاريخي للكفاح كان ثمرة مجهود جماعي، ساهم فيه اللاعبون والمدربون والجمهور والإداريون، ولكن لا يمكن نسيان أن "سي عبدالله الجزولي" كان أحد المؤسسين لتلك الملحمة التاريخية، صانعًا لطريق لم يكن مفروشًا إلا بالأمل والإصرار، لم يكن سي عبدالله الجزولي مجرد لاعب كرة، بل كان مشروعًا مجتمعيا يحمل في قلبه روح الالتزام والهوية والانتماء. لقد نقل معه هوية المدينة إلى كل الملاعب التي وقف فيها، حارسًا لا لشباك فقط، بل لذاكرة جيل بأكمله.

بفضل شخصيته المتزنة وتكوينه الديني والأخلاقي، كان مثالًا للاعب الذي يحترمه الخصم قبل الصديق، لا يصرخ، لا يشتم، لا يتعدى على أحد، بل يرد على الخصم بمهاراته وهدوئه، كأنه يلقّن درسًا في فن الرياضة وأخلاقياتها، حتى بعد تقاعده من الميادين، لم يبتعد عن شباب سيدي يحيى، ظل سندًا لهم، ينصح، يوجه، ويساعد في بناء الأجيال، دون أن يبحث عن أضواء أو منصب أو اعتراف رسمي، مكتفيًا بفخر التاريخ ورضى الضمير.

ولا يمكن الحديث عن الكرة اليحياوية دون التوقف عند سيرة سي عبدالله، فهي عنوان لقصة أمل نبتت من رحم البساطة، ونمت وسط التواضع، وأثمرت في صمت المبدعين الذين لا تُخلدهم الصور بل تحييهم الذكريات الصادقة، في زمن كانت فيه الإمكانيات منعدمة، والملاعب مجرد تراب، والمدرجات أرصفة، والحكام هواة، استطاع سي عبدالله أن يحقق ما عجز عنه غيره: أن يكون أسطورة دون أن يسعى للقب، وأن يكون رمزًا دون أن يصنع له أحد تمثالًا.

هو اليوم شاهد على نصف قرن من التحولات، من ملاعب التراب إلى ملاعب العشب، من أحذية "بلاستيكية" إلى أحذية نايك، لكنه بقي حارسًا للمبادئ كما كان حارسًا للمرمى، مخلصًا لما آمن به منذ أول ضربة كرة في زقاق الحي، كثيرون مروا من الملاعب واندثروا، لكن سي عبدالله ظل، لأنه لم يكن لاعبًا فقط، بل كان صوت مدينة، ونبض فريق، وحارس كفاح، وذاكرة وطنية لا تقبل النسيان.



يكفيه فخرًا أن اسمه لا يزال يتردد في مقاهي المدينة، وعلى شفاه الشيوخ، ووسط سجلات المهتمين بكرة القدم الوطنية. لأنه لم يكن يبحث عن الشهرة، بل صنعها، ثم انسحب منها بهدوء الكبار، من سيدي يحيى الغرب إلى سيدي قاسم، ومن الرباط إلى المحمدية، ومن ملاعب الحي إلى أرشيف المنتخب الوطني، كان عبدالله الجزولي يسطر ملحمة مغربية صادقة، حكاية رجل حوّل الكرة إلى رسالة، والميدان إلى منبر للكرامة.

وسيظل التاريخ يردد أن حارس عرين الكفاح لم يكن مجرد اسم في لائحة اللاعبين، بل كان ركيزة في بناء ذاكرة المدينة الرياضية، ومعلمًا من معالمها الأخلاقية والثقافية والإنسانية، لا بد أن نقر أن "سي عبدالله الجزولي" لم ينصفه الإعلام كما يجب، ولا كتب عنه الكتّاب ما يستحق، لكن ذكراه بين الناس كانت ولا تزال، وستبقى، أصدق من ألف تقرير وأعمق من كل مجد عابر.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك