حماية الذاكرة والمقدسات: كيف تُشكل ملاحم الريف (1893) وعي الأجيال بهويتها الوطنية؟

حماية الذاكرة والمقدسات: كيف تُشكل ملاحم الريف (1893) وعي الأجيال بهويتها الوطنية؟
مقالات رأي / الجمعة 24 أكتوبر 2025 - 19:00 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم : د. محمد أحدو

​يظل التاريخ خزانًا للدروس والعبر، ومن بين صفحاته المضيئة تبرز وقائع محددة تُجسد عمق العلاقة بين الإنسان وأرضه ومقدساته. ففي عام 1893م، وعلى تخوم مدينة مليلية المحتلة، سجل الريفيون بدمائهم ملحمة بطولية عكست إصرارهم على الدفاع عن كرامتهم وذاكرتهم الجماعية في وجه التوسع الاستعماري الإسباني.

​في تلك السنة، وفي سياق محاولة المستعمر الإسباني توسيع حدود مليلية بناءً على تفاهمات حرب تطوان لعام 1860م، أقدم مجاهدو قبائل قلعية وسكان منطقة فرخانة المتاخمة للحدود على مقاومة باسلة. لم يكن الأمر مجرد دفاع عن حدود جغرافية، بل كان دفاعًا عن الوجود والهوية. لقد كان توسع الاحتلال يهدد ضريح سيدي ورياش، رمزهم الديني والثقافي، والمقابر التي ضمت رفات آبائهم وأجدادهم، والتي تمثل امتدادًا حيويًا لهويتهم الجماعية.

​أثارت شراسة وصلابة المقاومة الريفية دهشة الرأي العام الإسباني حينها ، خاصة بعد سقوط الجنرال الإسباني مارغايو صريعًا برصاص المقاومين. هذه الواقعة لم تكن مجرد حادثة عسكرية عابرة، بل كانت تعبيرًا صادقًا وعميقًا عن التمسك بالأرض والذاكرة، والتأكيد على أن الهوية الوطنية والدينية خط أحمر لا يمكن التفريط فيه. وقد أشارت الصحف الإسبانية في ذلك الوقت  إلى القيمة الرمزية لهذا المزار والمقابر، متسائلة عن سر هذه المقاومة الشرسة من أجل تحرير ما يحمل هذه الرمزية الدينية والاجتماعية للساكنة.

​إن هذا الثقل التاريخي والديني وراء واقعة سيدي ورياش، التي سطرتها ملاحم المقاومة الريفية المتاخمة لمليلية من ساكنة فرخانة ومحيطها   قبل ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، هو ما دفع الباحث الأنثروبولوجي الأمريكي رايموند جاموس1 (Raymond Jamous)، الذي زار المنطقة في  اواخر السبعينات من القرن الماضي ، لإعداد كتابه الهام "الشرف والبركة عند قبائل  بالريف الشرقي بالمغرب". هذا العمل يؤكد البعد الأنثروبولوجي والاجتماعي العميق وراء هذه المقاومة، حيث يترابط مفهوم الشرف والكرامة بالدفاع عن الأرض والمقدسات والرموز الجماعية.

​لقد اختار أجدادنا أن يدافعوا عن الوطن والعرض والتاريخ والهوية والدين بدمائهم ضد كل محتل أجنبي. إننا اليوم أحوج ما نكون لاستلهام هذا التاريخ وتلك القيم النبيلة أمام الأجيال الحالية، دعماً للوطنية الحقة  وغرسًا لروح التشبث بالحقوق والأرض.

إن التعليم الذي يركز على  تدريس الأفكار مجزأًة  عن سياقها التاريخي يؤدي إلى تجزئة الهوية وإضعاف الامتداد المعرفي، ويكرس الجهل بالماضي الذي يشكل الأساس للبناء على وقائعه وشواهده من أجل التطلع إلى مستقبل واعٍ ومحصّن.

​فالمصالحة مع تاريخنا الوطني بكافة محطاته، والاعتراف بتضحيات الأجداد، ضرورة قصوى لتكريس الهوية والقيم الوطنية، وإعداد جيل الغد المتشبت بأرضه وحقوقه، والحذر من أعدائه وخصومه.

Raymond Jamous.   Honneur et baraka : Les structures sociales traditionnelles dans le Rif.Éditions de la Maison des sciences de l'Homme (MSH) و Cambridge University Press. 1981

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك