
بقلم : د.محمد احدو
إنّ
الانخراط في المبادرات المشتركة، سواء كانت فكرية أو ثقافية اجتماعية أو سياسية....، يُعدّ بحقّ مظهرًا أصيلاً من
مظاهر القيم الديمقراطية الحداثية، لا سيما في المجتمعات القائمة على التعددية وتتخذ منها أساسًا لشرعيتها. فجوهر
العملية الديمقراطية لا يكمن فقط في حفاظ كل طرف على قناعته ورؤيته ، بل في القدرة
على بناء "إيتيقا التوافق"، أي ذلك الحس العميق بالتفاهم والقبول المتبادل
الذي يسمح بالاجتماع حول مساحات المشترك. هذا التوافق، لكي يكون ذا قيمة
ومستدامًا، يجب أن ينبني على قناعة راسخة تتجاوز الحسابات الذاتية والقناعات
الشخصية الضيقة؛ إنه توافق يستند إلى مبدأ "الإجماع المتداخل" على غرار
ما طرحه جون رولز،Jean Rawls
حيث تتفق الرؤى المختلفة على مبادئ العدالة والمصلحة العامة دون التخلي الكامل عن
جذورها الفلسفيةوقناعاتها الذاتية دون جذب وتدافع
.
لكن الطريق
إلى نجاح هذه المبادرات المشتركة يكتنفه قدر كبير من التحدي، لعل أبرزها هو
التضارب المزمن بين الرؤى والمصالح. فبمجرد أن تبدأ الأطراف في التجمع، يطفوا على
السطح حضور القناعات
الذاتية ويبدأ الخلاف والتضارب في الرؤى والتصورات؛ إذ يتحول الحماس للدفاع
عن المشترك إلى فرصة لتحويل مسار المبادرة
لخدمة مسارات وأهداف فئوية أو شخصية تخرج عن النص المتفق عليه واطار الائتلاف
المراد تحقيقه من اجل المشترك .
ورغم أن
الحاجة إلى التوافق هي ضرورة تمليها المصلحة العامةاحيانا كثيرا ، ويُعدّ مطلبًا
عقلانيًا كما أشار الى ذلك يورغن هابرماسjurgen Habermas في معرض
حديثه عن نظرية التواصل ، كشرط لشرعية
القرار، فإن الهاجس الأكبر ليس في كيفية الوصول إليه، بل في كيفية الحفاظ عليه
لضمان عدم تحوّله إلى أداة للصراع المقنّع، ولتحقيق استمرارية النتائج المرجوة.
إن الحفاظ
على استمرارية المبادرات الثقافية والمدنية والسياسية ..... يتطلب آليات حوكمة
أكثر من مجرد إعلانات نوايا. تفترض العمل
على بناء "الحد الأدنى القابل للحياة"، أي مجموعة واضحة ومُلزمة من
القواعد والأهداف التي تُعَدّ بمثابة خط أحمر لا يجوز تجاوزه.
كما يتطلب الأمر نضجًا فكريا وثقافيا و سياسيًا يتمثل في قدرة القناعات الشخصية والرؤى
الذاتية على "الانصهار" داخل
هذا الوعاء المشترك ممارسة ، بحيث لا يتم الدفاع عن الرؤية الخاصة إلا في حدود ما
يدعم الكيان الأكبر للمبادرة. هذا الانصهار يتطلب التدريب على ثقافة الانصهار داخل هذا التوافق في إدارة المشترك
بعقلانية وحكمة بعيدا عن الشد والجدب
وتغليب رؤى وقناعات وهي من مرتكزات التربية على القيم المدنية بدءا من الأسرة
والمدرسة عبر تعليم أجيال الغد كيفية التعايش في إدارة الاختلاف فيما بينها خدمة
للمصالح المشتركة.
وفي النهاية، تبقى المبادرات الجماعية مهما كانت
طبيعتها امتحانًا حقيقيًا للنضج
الديمقراطي: فنجاحها لا يكمن في إلغاء الاختلافات في الرؤى وتحييدها ، بل في قدرة
الأطراف على توجيه طاقاتها نحو تحقيق نتائج تخدم المشترك، وتجعل هذه المبادرات يحفها النجاح والاستمرارية وتحقق
اهدافها في اطار المجال الذي تستهدفه ان كان ثقافيا اوا جتماعيا اوسياسيا .
فقوة
المبادرات الجماعية من تنوع المشاركين في اختلافاتهم، مع العلم ان اكبر معول
لهدهما يكمن حين تحضر الذاتية وتهيمن
القناعات الشخصية ضمن هذا المشترك لتعلن عن اضعافها أو و ؤدها .
John Rawls, Libéralisme Politique
.1993
Jurgen Habermas , Théorie de l’Agir. 1981
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك