المجلس الوطني للصحافة... فاقد للمصداقية ومنفصل عن الميدان

المجلس الوطني للصحافة... فاقد للمصداقية ومنفصل عن الميدان
مقالات رأي / الأربعاء 15 أكتوبر 2025 - 08:42 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم: مصطفى شكري

المجلس الوطني للصحافة في المغرب، المؤسسة التي وُلدت على أمل حماية حرية الكلمة وصون كرامة الصحافيين، أصبح اليوم نموذجًا صارخًا لما يمكن أن يُسمّى “المجلس الغطائي”، أي مجلس يغطّي الانتهاكات بدل أن يفضحها، ويؤطر الأقلام لا ليحررها، ويصنع صورة مزيفة عن المهنة بدل أن يُمثلها حقيقة.

كان المفترض أن يكون هذا المجلس ممثلًا حقيقيًا للصحافيين، يمارس الرقابة الأخلاقية والمهنية، ويضمن استقلالية الصحافة عن أي سلطة أو ضغط، غير أن الواقع كشف أن أغلب أعضائه لا علاقة لهم بالممارسة الصحفية الفعلية، ولم يكتبوا يومًا تحقيقًا ميدانيًا أو مقالًا انتقد سلطة أو كشف فسادًا، مما جعل المجلس أداةً شكلية بيد من يريد تزيين صورة الإعلام لا إصلاحه.

إنه مجلس يعيش في برجٍ إداري معزول، يتحدث عن الصحافة من المكاتب المكيفة وليس من الشارع أو غرف التحرير أو أماكن التحقيق. الصحافيون في الميدان يواجهون تهديدات وظروفًا صعبة، ويعملون بأجور متدنية، ويغمرهم الغضب من الرقابة الإدارية والسياسية، لكن المجلس يظل صامتًا أو يُصدر بيانات عامة لا تعكس أي موقف. هذا الصمت ليس حيادًا، بل غطاءً للسلطة، وغالبًا ما يتحول المجلس إلى أداة لتبرير قرارات إدارات الصحف أو الهيئات الحكومية ضد الصحافيين المستقلين.

أمثلة عدة تُظهر هذا الأداء الغطائي بشكل صارخ. ففي حالات توقيف صحافيين أو طردهم من وسائل إعلام خاصة، مثلما حدث مع صحافيين مستقلين في الجرائد الرقمية بين سنتي 2023 و2024، لم يُصدر المجلس أي بيانات احتجاجية أو تحقيقية، مكتفيًا بإعادة صياغة البلاغات الرسمية أو دعوات “التحقيق الإداري”، بينما الصحافي فقد عمله وسمعته، ولم يجد صوتًا يُدافع عنه. وفي حالات أخرى، عندما تكشف التحقيقات عن فساد أو خروقات مالية في مؤسسات إعلامية مدعومة، نجد المجلس يتدخل بطرق غير مباشرة ليُطمئن الإدارة أو يخفف الضغط على المسؤولين، بدل أن يُصادق على نتائج التحقيقات وينشرها للعموم. هذه الأمثلة توضح أن المجلس لم يعد هيئة رقابية أو أخلاقية، بل أصبح غطاءً يحمي من يُفترض أن يُحاسب.

المجلس، في هيكله الحالي، يفتقد للشرعية المهنية.

أغلب أعضائه لم يمارسوا الصحافة ولم يكتبوا التحقيقات أو المقالات، بل جاءوا عبر تعيينات أو توازنات سياسية ونقابية، مما أفقده مصداقيته أمام المهنيين. كيف يمكن لمجلس يضم من لم يعرف ميدان الصحافة أن يُصدر أحكامًا على الممارسة الصحفية؟ كيف يمكن أن يكون ممثلًا للصحافيين في مواجهة السلطة وهو لم يواجهها يومًا؟

هذا الانفصال بين الممارسة والتقنين جعل المجلس يعيش أزمة ثقة عميقة، فالصحافي اليوم لا يثق في مجلس لا يعرف وجعه ولا يتابع قضاياه اليومية، ويعتبر قراراته بلاغات إدارية باردة لا تعكس الميدان ولا تعطي حلولًا حقيقية لمشاكل المهنة.

إن فقدان المجلس للضمير المهني أكثر وضوحًا في صمته الممنهج أمام قضايا حرية التعبير. فعلى سبيل المثال، عندما قامت السلطات المحلية في بعض المدن بإغلاق منصات إعلامية رقمية، لم يصدر المجلس أي بيان واضح يدين الإجراء، ولم يُدافع عن حرية الصحافة الإلكترونية. في المقابل، عندما تورط صحافيون مستقلون في نشر أخبار سياسية حساسة، وجدوا المجلس سريع التدخل لصالح الجهات الرسمية، مُمارسًا الرقابة الغير مباشرة، مما جعل صورته مجرد واجهة تزيين للسلطة، لا جسمًا مهنيًا حقيقيًا يمثل الصحافيين.

الأدهى من ذلك، أنّ المجلس أصبح عاجزًا عن التعبير حتى أمام القرارات الكبرى، فحين يخرج وزير العدل الوهبي بأي تصريح أو قرار له أثر على الإعلام، لا يجرؤ أحد في المجلس على الكلام أو الاعتراض، لأنهم يعتبرون أنفسهم “نعمة” من حكومة عزيز أخنوش، ويعرفون أن أي موقف مستقل قد يُكلفهم مكاسبهم الشكلية أو مكانتهم الإدارية. هذا الانحناء للسلطة لا علاقة له بالمهنة الصحفية، ولا بالحرية، ولا بالضمير، بل هو مثال حي على كيف يمكن للمؤسسة أن تصبح أداة خضوع سياسي بدل حماية مهني حقيقي.

هذا الأداء الغطائي يمتد أيضًا إلى ملف أخلاقيات المهنة. بدلاً من أن يكون المجلس أداة لحماية نزاهة الصحافة ومحاسبة المخالفين، نجد أنه غالبًا ما يلاحق الأقلام المستقلة ويترك الأقلام التابعة أو الموالية للسلطة تتجاوز كل الأخلاقيات بلا مساءلة. هذه الازدواجية ليست فقط إخفاقًا إداريًا، بل إهانة للصحافة وللذين يؤمنون بالحرية والنزاهة المهنية.

الصحافة اليوم ليست مجرد كتابة أو نشر، بل هي معركة يومية ضد التضييق والفساد والرقابة المزدوجة، والمجلس الوطني للصحافة المفترض أن يكون درعها أصبح، في العديد من الحالات، جزءًا من منظومة التزييف والغطاء. إن استمرار هذا الوضع لا يضر الصحافة فحسب، بل يضر بالمجتمع بأكمله، لأنه يجعل المواطن فاقدًا للثقة في الإعلام، ويؤكد أن المؤسسات الرسمية لا تدافع عن الحقيقة، بل عن مصالح محددة.

الإصلاح الحقيقي يتطلب إعادة بناء المجلس من جديد، على أسس مهنية وديمقراطية، بحيث يكون أعضاؤه صحافيين ميدانيين يعرفون التحديات اليومية، ويمتلكون الشجاعة لمواجهة السلطات، ويضعون مصلحة المهنة والضمير المهني قبل أي اعتبارات سياسية أو إدارية. المطلوب مجلسًا يُنتخب بحرية، ويخضع للمساءلة، ويعمل كهيئة رقابية حقيقية، لا كواجهة رسمية لتغطية الانتهاكات، ولا كأداة لتجميل صورة السلطة على حساب المهنة.

حتى يتم ذلك، ستظل الصحافة المغربية تعيش أزمة الثقة، والمجلس الوطني للصحافة سيبقى مجلسًا غطائيًا يفتقد الشرعية والمصداقية، وأي حديث عن "الصحافة الوطنية" سيظل شعارًا بلا مضمون. فالصحافة الحرة لا تحتاج فقط إلى قوانين، بل إلى مجلس يمثلها فعليًا، يحميها، يدافع عنها، ويحاسب من يسيء إليها. وكل من لا يعرف معنى هذه المعركة اليومية لا يحق له أن يتحدث باسم الصحافيين أو يقرر مصيرهم، لأنه ببساطة لم يختبر المعركة التي تعيشها الأقلام الحقيقية على أرض .

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك