
بقلم: مصطفى شكري
منذ ظهورها في نجد على يد محمد بن عبد الوهاب في القرن
الثامن عشر، كانت الدعوة الوهابية تدّعي الإصلاح الديني، لكنها سرعان ما تحولت إلى
منهج تكفيري وعنيف، أوقع الأمة في دوامة من الصراعات والفتن الداخلية، ودمّر حياة
آلاف الأبرياء.
محمد بن عبد الوهاب أعلن نفسه حاكمًا على الإيمان
والكفر، وبدأ يكفّر علماء الأمة والممارسات الدينية التقليدية، متجاهلًا الرحمة
والعقل والفقه المعتدل الذي صاغته الأمة عبر القرون. والده عبد الوهاب بن سليمان
حذره من التكفير الجماعي للمسلمين بلا دليل، وأخوه سليمان بن عبد الوهاب كتب كتابه
الشهير «الصواعق الإلهية» ليحذر الأمة من الفتنة التي أحدثها هذا الفكر، مؤكدًا أن
تكفير العلماء وتبرير قتل الأبرياء خروج على الدين والرحمة.
تجلّى التطرف الوهابي منذ البداية في حملات دموية واضحة،
منها هجومهم على الطائف وكربلاء وتدمير المزارات، وهي أمثلة لا يمكن إنكارها على
الوجه الدموي لهذه الحركة. لم تكن مجرد دعوة إصلاح، بل تجربة سياسية عسكرية دينية
تمزج بين السلطة والعنف.
ومع مرور الزمن، وصل الفكر الوهابي إلى القرن العشرين
والحادي والعشرين عبر رموز مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين،
والدكتور صالح الفوزان، والدكتور علي الخميس، الذين رسخوا منهجًا جامدًا في الفتوى
جعلها أداة سلطة فوقية، تحد من الاجتهاد، وتحوّل الدين إلى أحكام صارمة خالية من
الرحمة والروح.
هذا الخطاب المعاصر أسهم في إفقار العقل الديني للشباب،
وخلق مناخًا من الخوف والوصم الاجتماعي، وأدخل الأمة في صراعات داخلية نتيجة تصنيف
الناس إلى مؤمنين ومبتدعة ومشركين وفق مقاييس ضيقة. البعد الأخلاقي والرحمي في
الدين غُيّب بالكامل، وحُلّ محله الالتزام الصارم بالقواعد الشكلية، مما أدى إلى
تراجع الحوار الديني وتشجيع التطرف المضاد في أوساط الشباب الذين يبحثون عن معنى
أبعد من الأوامر والنواهي الصارمة.
فتاوى هؤلاء العلماء المعاصرين، خاصة ابن باز وابن
عثيمين والفوزان والخميس، أظهرت بشكل صارخ إغلاق باب الاجتهاد وتحجيم العقلية
النقدية. فقد اختزلوا دينًا شاملاً ومعقدًا إلى قاعدة واحدة: صحيح أو باطل، مع
تجاهل الفقهاء والمذاهب الأخرى التي ساعدت الأمة على الصمود عبر التاريخ. على سبيل
المثال، فتوى ابن باز بتحريم زيارة القبور أو التوسل بالصالحين جردت العقيدة من
روحها الإنسانية، وحوّلت العبادة إلى طاعة صارمة بلا تفكر أو رحمة. ابن عثيمين
والفوزان والخميس أضافوا صرامة جديدة، مشددين على الابتعاد عن الممارسات
الاجتماعية التقليدية، ووصم كل من يخالفهم بالبدعة أو الشرك، وهو ما ساهم في تعميق
الانقسام المجتمعي وإضعاف العلاقات الاجتماعية.
التاريخ مليء بالحوادث التي تثبت الوجه الدموي للوهابية،
بدءًا من السيطرة على مدن الحجاز والطائف، إلى تدمير المقابر والمزارات، وقتل
العلماء والمواطنين الذين خالفوا المنهج، مرورًا بمحاولات فرض التكفير على كل من
يعارضهم. هذه الجرائم التاريخية لم تتوقف، بل استمرت في إطار فكرهم المعاصر، من
خلال الخطاب الجامد الذي يبرر الصرامة والتكفير ويغلق باب الاجتهاد والحوار، مما
جعل بعض الشباب يلتقط هذا الفكر بشكل متطرف، ويصبح أداة صراع داخلي واجتماعي،
ويُدخل الأمة في دائرة من التفرقة والخوف.
مقارنة بين الفكر الوهابي والفكر المعتدل في الإسلام
تُظهر الفارق الكبير بين الاجتهاد المرن والرحمة في الإسلام التقليدي، وبين الجمود
والتكفير في الوهابية. الفكر المعتدل يقوم على الحوار، والرحمة، واحترام تعددية
المذاهب، ويمنح الإنسان القدرة على الاجتهاد والفهم العميق للنصوص الدينية، بينما
الفكر الوهابي يحصر الدين في قواعد صارمة، ويجرد الإنسان من القدرة على التفكير
الحر، ويغلق الطريق أمام الحوار والتسامح، ويبرر العنف باسم العقيدة.
الآثار الاجتماعية للفكر الوهابي واضحة: خلق مجتمعًا
خوفًا وصمتًا، وعزّل الشباب عن الثقافة الدينية المعتدلة، وفتح الباب أمام
الانقسامات الطائفية والفكرية. كما أدى الجمود الفكري والتكفير المستمر إلى تقويض
الروابط الاجتماعية وخلق بيئة خصبة للصراعات الداخلية والتطرف المضاد. التعليم
الديني المشبع بهذا الخطاب يحرم الشباب من التفكير النقدي ويجعلهم أدوات قابلة
للتوجيه والتوظيف السياسي والاجتماعي، بعيدًا عن الفهم العميق والدقيق للدين.
الرد على هذا الفكر لا يكون بالسب أو التجريح الشخصي، بل
بالعلم والتحليل النقدي والفهم التاريخي. كتابات مثل «الصواعق الإلهية» تظهر أن
الفتنة كانت واضحة منذ البداية، وأن الحل الوحيد لمواجهة هذه الفرقة هو استعادة
العقلانية، الرحمة، والاجتهاد المعتدل. على الأمة أن تقدم بدائل علمية ونقدية،
تشرح معنى الدين الحقيقي بعيدًا عن التكفير والوصم والجمود، وتعيد للشباب القدرة
على التفكير بحرية وموازنة بين العقل والدين. يجب أن يكون هذا الرد شاملًا،
متجذرًا في التاريخ والفكر، يوضح الوجه الحقيقي للدين، ويكشف عن الممارسات الظالمة
التي تبناها الوهابيون عبر القرون.
إن الأمة بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إحياء
الاجتهاد المعتدل، واستعادة الرحمة والاعتدال في الخطاب الديني، وإعادة الدين إلى
صورته الشاملة التي تهدي النفوس وتحفظ المجتمع، وتعلّم الشباب قيمة العقل والضمير.
مواجهة الوهابية والفكر الجامد لا تتحقق إلا بالوعي التاريخي والفكري، وتحليل
المنهجية الصارمة التي أوصلتهم إلى إقصاء الآخرين وتحجيم الاجتهاد. الدين الحقيقي،
كما أراده الله، هو رحمة وعدل وهداية، وليس أداة لتبرير القمع الاجتماعي أو
السياسي، أو لتشويه صورة الأمة. يجب على الأمة أن تتعلم من التاريخ، وأن ترفض أي
محاولة لتحويل الدين إلى أداة للسلطة أو العنف، وأن تبني جيلًا واعيًا قادرًا على
مواجهة الفكر الجامد والمتطرف، مستندًا إلى العلم، الرحمة، والعدل، وهو الطريق
الوحيد لإنقاذ الأمة والشباب من الفتن الداخلية والتطرف المدمر.
وللحديث بقية
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك