أنتلجنسيا المغرب:للا الياقوت
قبل عام، وفي خضم احتدام السباق الرئاسي بين دونالد ترامب وكامالا هاريس، قال لي أحد كبار المستشارين المخضرمين في عالم صفقات الاندماج والاستحواذ إن فوز المرشح الجمهوري سيدفع العديد من أقطاب وول ستريت إلى «الحنين والتوق لعودة لينا خان».
كان هذا الصانع البارز للصفقات يدق ناقوس الخطر محذراً من أن نهج ترامب في مكافحة الاحتكار سيفرض قيوداً أشد صرامة على إتمام الصفقات مقارنة بما كان سائداً في عهد لينا خان، الرئيسة التقدمية لهيئة التجارة الفيدرالية الأمريكية - الجهاز الرقابي المعني بحماية المنافسة - خلال إدارة جو بايدن.
واليوم، وبعد مرور عام كامل، باتت الصورة أكثر وضوحاً في نظر مصرفيي الاندماج والاستحواذ الذين يؤكدون صحة هذه التوقعات، إذ تحولت عملية الموافقة على الصفقات إلى ساحة سياسية محتدمة تتجاوز بكثير ما شهدته فترة خان، التي طالما اتهمت من أوساط المال والقانون باستغلال إجراءات الموافقة على عمليات الدمج والاستحواذ كأداة للتأثير في السياسات العامة بما يتخطى حدود حماية المنافسة.
ومنذ اعتلاء ترامب سدة الحكم مجدداً، شهد قطاع إبرام الصفقات في الولايات المتحدة انهياراً حاداً، ويعزى ذلك جزئياً إلى الاضطرابات السياسية في ملفات حيوية كالتعريفات الجمركية، فضلاً عن تنامي حالة الضبابية والتسييس المفرط لمسار الموافقة على المعاملات.
وقد كشفت بيانات مجموعة لندن للبورصة والمعلومات المالية عن إعلان قرابة 10.900 صفقة فقط خلال الربع المنتهي في 30 يونيو، مسجلة بذلك أدنى مستوى فصلي منذ مطلع 2015، باستثناء الربع الثاني من 2022 الذي تأثر بتداعيات الجائحة.
ويكشف خبراء الصفقات أن تقييم عمليات الاندماج لم يعد يستند إلى التحليل الموضوعي للسوق، بل أضحى انعكاساً صارخاً لأجندات حزبية متباينة تتراوح بين نزعة «أمريكا أولاً» القومية ومحاربة سياسات التنوع والإنصاف والشمول.
وفي هذا الإطار، يقول أحد كبار صناع الصفقات والمنخرط في معاملات بعيدة عن الشأن الحكومي: «أعمل حالياً على صفقات متعددة وثمة أشخاص داخل أروقة البيت الأبيض يملون علي ما يمكنني وما لا يمكنني فعله، إنه تدخل غير مسبوق لم أشهده طوال مسيرتي المهنية».
ويتحاشى معظم خبراء الصفقات توجيه الانتقاد العلني للإدارة خشية التعرض للانتقام.
غير أن قضية استحواذ شركة نيبون ستيل اليابانية على يو إس ستيل الأمريكية تبرز كمثال صارخ يستشهد به خبراء المعاملات، فقد هاجم ترامب بشراسة خلال حملته الانتخابية 2024 هذا الاستحواذ معتبراً إياه تهديداً وجودياً للصناعة الأمريكية.
بيد أنه، وبمجرد تسلمه مقاليد السلطة، منح الصفقة الضوء الأخضر بعد إجبار المشتري على قبول آلية «السهم الذهبي» – الذي يمنح الحكومة حق الفيتو على القرارات الاستراتيجية للشركة.
ويدق المستشارون جرس الإنذار من هذه السابقة الخطيرة: فعمليات الاستحواذ الأجنبية المستقبلية قد تصبح رهينة المساومات السياسية أكثر من ارتباطها بتقييم التأثيرات التنافسية.
وعلى نطاق أوسع في عالم الاندماج والاستحواذ، باتت عوامل غير تقليدية تتسلل إلى منظومة الموافقات.
وحذرت شركة «واشتيل» القانونية في مذكرة حول الصفقات والسياسة قائلة: «يتعين على أطراف المعاملات الاستعداد للتدقيق التنظيمي، حتى لو بدت المخاطر ضئيلة. ففي المناخ العالمي الراهن، يمكن للسياسة أو عوامل خارجية أخرى أن تقتحم المشهد بسهولة، وغالباً بطرق لا يمكن التنبؤ بها».
ويؤكد مستشار بارز للعلاقات العامة، خاض غمار صفقات شائكة: «يتخبط الرؤساء التنفيذيون في محاولة فهم توجهات الحكومة، ومعظمهم يفضل الانتظار على الهامش ترقباً لمزيد من الوضوح. أما من تضطرهم الظروف لإبرام صفقة، فيسعون جاهدين للحصول على مساعدة لتسويقها بطريقة تحظى بقبول الإدارة».
وكشف صناع الصفقات أن هذا الوضع يدفعهم أحياناً لتبني مواقف حذرة في قضايا لا تمت بصلة للصفقة ذاتها، مثل ملفات التنوع والإنصاف والشمول.
ويقول أحد المستشارين المتخصصين في تقديم المشورة للرؤساء التنفيذيين بشأن الصفقات: «رغم حرص العديد من الشركات على مواصلة التزامها بمبادئ التنوع والإنصاف والشمول، إلا أنها باتت تستنجد بنا لتنقية وثائقها من أية إشارات لهذه المبادئ خشية استهدافها من قبل هيئة التجارة الفيدرالية أو الجهات الرقابية الأخرى».
ويضيف أحد كبار صانعي الصفقات في وول ستريت: «تحولت المنظومة بأكملها إلى ساحة سياسية محضة، بل وصلت في بعض الحالات إلى مستوى الاستهداف الشخصي».
في المقابل، يرى صناع القرار الحاليون أن ظاهرة تسييس موافقات الاندماج والاستحواذ لم تولد مع الولاية الثانية لترامب، مستشهدين بنهج لينا خان وجوناثان كانتر - الرئيس السابق لقسم مكافحة الاحتكار بوزارة العدل - اللذين تبنيا أجندة تقدمية إبان حكم بايدن عبر مواجهة صفقات العمالقة التكنولوجية ومعاملات صناديق الأسهم الخاصة.
بيد أن حدود سياسة المنافسة، التي كانت محصورة سابقاً في نطاق ضيق، قد تمددت وتوسعت بشكل غير مسبوق.
فقد نظمت هيئة التجارة الفيدرالية، على سبيل المثال، ورشة عمل في 9 يوليو لتقصي مدى تعرض المستهلكين لادعاءات مضللة أو غير مدعومة حول «الرعاية المؤكدة للهوية الجنسية» للقاصرين والمخاطر المحتملة التي قد يواجهها المستهلكون جراء ذلك.
وبتعاملها مع هذه القضايا من منظور مكافحة الاحتكار، توجه الهيئات الرقابية رسالة واضحة مفادها أن الصفقات باتت تخضع لاعتبارات تتجاوز بمراحل العوامل التقليدية كالسعر والحصة السوقية.
ويحذر المستشارون القانونيون للشركات من أن هذا النهج يقوض أسس الحيادية التي ارتكزت عليها سياسة الاندماج الأمريكية عبر عقود.
بدوره، قال أحد صانعي الصفقات: «نحن نشهد تأثيراً سلبياً حقيقياً، حيث بات العملاء يترددون في القيام بالمعاملات العابرة للحدود خشية اصطدامهم بعوائق سياسية غير مرئية - سواء تمثلت في فرض الأسهم الذهبية، أم الاشتراطات الأيديولوجية، أم الإملاءات الثقافية».
المصدر:البيان
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك