أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
عندما أطلق الملك محمد السادس سنة 2005 "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" المعروفة اختصار بـ"INDH"، قُدِّمت للمغاربة على أنها ثورة اجتماعية هادئة تهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي.
وكان الهدف المعلن سامياً: دعم الفئات الضعيفة عبر مشاريع مدرّة للدخل، وإشراك الجمعيات المحلية في صناعة التنمية.
لكن بعد مرور 13 سنة على انطلاقتها، يبدو أن هذه المبادرة تحولت إلى أداة مركزية لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وخصوصاً بين المؤسسة الملكية والمجتمع المدني، بل وحتى الأحزاب السياسية.
1. منطق “المبادرة الملكية” وتهميش الوساطة السياسية
يُجمع العديد من المراقبين على أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم تكن مجرد سياسة عمومية، بل كانت مشروعاً ملكياً فوق حكومي، تم تصميمه وتدبيره خارج المنظومة الحكومية والحزبية التقليدية.
هذا الطابع "الملكي المباشر" جعلها تُقدم كمنقذٍ من فشل الأحزاب والإدارات، وأعطاها هالة رمزية قوية في المخيال الشعبي.
لكن النتيجة غير المعلنة كانت إضعاف دور الفاعل السياسي، خصوصاً المنتخبين المحليين الذين أصبحوا هامشيين أمام "اللجان المحلية للتنمية البشرية" التي تتحكم فيها الإدارة، بتوجيه من وزارة الداخلية.
بمعنى آخر، انتقل القرار التنموي من الفضاء السياسي المنتخب إلى فضاء إداري مُمركز، حيث تم تحويل التنمية إلى شأن تقني لا سياسي، مما أدى إلى تفريغ العمل السياسي من مضمونه الاجتماعي.
2. المجتمع المدني بين الاحتواء والإخضاع
كان يُفترض أن تكون الجمعيات المحلية شريكاً أساسياً في تفعيل مشاريع المبادرة، غير أن التجربة كشفت عن دينامية مختلفة تماماً.
أُنشئت آلاف الجمعيات بعد 2005 بدافع الاستفادة من تمويلات المبادرة، وليس من منطلق قناعة مدنية أو التزام اجتماعي.
ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الجمعيات تعتمد بشكل شبه كلي على دعم المبادرة، ما جعلها رهينة للسلطة الإدارية، وخاضعة لمنطق الولاء أكثر من منطق الكفاءة أو الاستقلالية.
هذا الوضع أفرغ المجتمع المدني من دوره الرقابي والنقدي، وحوّله إلى أداة تنفيذية تابعة للمشاريع الرسمية. فالجمعيات لم تعد ترفع مطالب المواطنين أو تمثلهم، بل أصبحت تبرر اختيارات الإدارة وتُسوق نجاحاتها الميدانية.
3. المعرفة والقرار: حين تُحتكر المعلومة التنموية
أحد أهم آثار المبادرة هو احتكار المعلومة التنموية من طرف الأجهزة الإدارية.
فالأرقام والمعطيات حول الفقر، البطالة، أو مستوى الخدمات الأساسية أصبحت محصورة في تقارير المبادرة، بينما تم إقصاء الأحزاب والنقابات والجامعات من الوصول إلى هذه البيانات.
هذا الاحتكار جعل الفاعل السياسي يفقد أهم أدوات اتخاذ القرار، أي المعرفة الدقيقة بواقع المجتمع.
وبذلك، تم سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب، التي لم تعد تملك قاعدة معرفية تبني عليها برامجها الانتخابية أو مواقفها السياسية. فالقرار أصبح "يُصنع" في الدائرة الإدارية، بينما بقي السياسي في موقع المتفرج.
4. المبادرة كبديل للدولة الاجتماعية
من زاوية أخرى، يمكن القول إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تحولت تدريجياً إلى بديل موازٍ للسياسات الاجتماعية.
بدل أن تقوم الوزارات بواجبها في التعليم، الصحة، والشغل، أصبحت مشاريع المبادرة تُقدم كحلول ظرفية لترقيع أعطاب الدولة.
لكن هذه الحلول، وإن أظهرت إنجازات رمزية في بعض المناطق، لم تُنتج سياسة مستدامة، بل عمّقت الطابع الإحساني للدولة، وأضعفت منطق الحقوق والمواطنة.
أصبح المواطن ينتظر من "المبادرة" أن تبني له القنطرة أو تهيئ له السوق أو تموّل له المشروع، بدل أن يطالب بمؤسسات قوية وخدمات عمومية عادلة.
5. من التنمية إلى الضبط الاجتماعي
يذهب بعض الباحثين إلى أن المبادرة لم تعد فقط مشروعاً تنموياً، بل تحولت إلى أداة للضبط الاجتماعي.
فهي تشتغل في المجال نفسه الذي تظهر فيه بوادر الاحتقان، وتضخ موارد مالية لتبريد التوترات المحلية.
بمعنى آخر، صارت التنمية وسيلة لتدبير الاستقرار، وليست وسيلة لتغيير الواقع البنيوي للفقر أو التفاوتات.
تعمل المبادرة بمنطق "التهدئة الاجتماعية" أكثر من منطق "التحول الاقتصادي"، وهو ما يجعلها جزءاً من آلية الحكم وليس من آلية الإصلاح.
6. إعادة إنتاج الولاءات: الإدارة مقابل السياسة
بفضل التمويلات الضخمة التي تتحكم فيها المبادرة، استطاعت وزارة الداخلية أن تُعيد تشكيل شبكة ولاءات جديدة تمتد من الجمعيات المحلية إلى المجالس المنتخبة.
فالمشاريع تُوزع أحياناً بمنطق "المكافأة والعقاب"، مما جعل العديد من الفاعلين المحليين يفضلون التقرب من رجال السلطة بدل الانخراط في الأحزاب.
وهكذا، تم إضعاف السياسة لصالح الإدارة، وتحولت التنمية إلى مجال لتثبيت السيطرة الرمزية للدولة، وتهميش كل من يحاول الاشتغال خارج منظومتها.
7. غياب التقييم والمساءلة
رغم مرور مدة غير يسيرة على إطلاق المبادرة، لا توجد إلى اليوم آلية مستقلة لتقييم أدائها أو قياس أثرها الحقيقي على الفقر والهشاشة، خصوصا وأن الملك هو من أطلق شخصيا "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية".
فالتقارير الرسمية تكتفي بإبراز الأرقام والميزانيات، دون تحليل مدى استدامة المشاريع أو تأثيرها الاجتماعي.
أما البرلمان والأحزاب، فقد غُيبوا تماماً من المتابعة، مما جعل المبادرة فضاء مغلقاً تحكمه البيروقراطية والرمزية الملكية، دون رقابة مؤسساتية حقيقية.
الحاجة إلى استعادة السياسة من قبضة التنمية
تُظهر تجربة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن التنمية في المغرب أصبحت أداة لإعادة ترتيب السلطة أكثر من كونها وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
فقد تم احتواء المجتمع المدني، وتحييد الأحزاب، وتجريد الفاعل السياسي من المعرفة والقدرة على المبادرة.
إن الخطر اليوم لا يكمن في فشل التنمية، بل في تآكل السياسة نفسها، أي في فقدان المجتمع لوسائطه التمثيلية التي تعبّر عن مطالبه وتفاوض الدولة حول خياراته.
إن إعادة التوازن بين الدولة والمجتمع، بين الإدارة والسياسة، تتطلب اليوم تحرير التنمية من الطابع الرمزي والإحساني، وجعلها مجالاً ديمقراطياً يشارك فيه الجميع على أساس الشفافية والمحاسبة.
وإلا ستظل التنمية البشرية مشروعاً جميلاً في الخطاب، لكنه مكلف سياسياً في الواقع.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك