أنتلجنسيا المغرب
في حدث تاريخي غير مسبوق، أعلن الفاتيكان يوم الخميس 08 ماي الجاري، عن انتخاب الكاردينال الأمريكي روبرت بريفوست بابا جديدًا للكنيسة الكاثوليكية، حاملاً اسم ليو الرابع عشر، ليكون بذلك أول بابا في التاريخ من أصول أمريكية، في لحظة سياسية تتقاطع فيها الديانات والمصالح والأجندات الدولية بشكل غير مألوف.
لكن ما لفت الانتباه أكثر من الحدث الديني نفسه، هو تزامنه مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتحالفه المتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. فهل نحن أمام تحوّل عميق في التوازنات داخل الكنيسة؟ وهل اختيار البابا الأمريكي له صلة مباشرة بهذا المحور الجديد؟
أمريكا تحتل عرش القداسة لأول مرة
لم يكن أحد يتوقع أن ينجح الكاردينال بريفوست، المحافظ المعروف بقربه من دوائر القرار الأمريكية، في الوصول إلى سدة البابوية بهذه السرعة. لكن رياح التغيير داخل الكنيسة الكاثوليكية بدأت تهب منذ سنوات، خصوصاً بعد تصاعد الانتقادات لدور الفاتيكان في قضايا السياسة العالمية، والتباعد الثقافي المتزايد بين أوروبا والكنيسة، مما فتح الباب أمام مرشح قادم من "العالم الجديد" لقيادة مؤسسة عمرها قرون.
ليو الرابع عشر، الاسم الذي اختاره البابا الجديد، يرمز إلى إرادة واضحة لإحياء تقاليد السلطة القوية في الكنيسة، على غرار البابا ليو الثالث عشر، الذي واجه الحداثة الأوروبية في القرن التاسع عشر بحزم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا الآن؟ ولماذا أمريكي؟
ترامب، نتانياهو..والبابا؟
اللافت أن صعود البابا بريفوست تزامن بدقة شبه متناهية مع عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا. الرئيس الذي عرف بدعمه المطلق لإسرائيل، وتحالفه العلني مع اليمين المسيحي المتشدد، يعيد تشكيل المشهد الدولي من منظور محافظ يستند إلى الدين كأداة سياسية. ويُنظر إلى ترامب على أنه أحد أبرز الحلفاء التاريخيين لنتانياهو، حيث تحالف الرجلان خلال ولايته السابقة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط عبر "صفقة القرن"، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بمرتفعات الجولان كأراضٍ إسرائيلية.
في هذا السياق، لا تبدو مصادفة أن يُنتخب بابا محافظ أمريكي في توقيت مماثل. فهل يُستخدم الفاتيكان الآن لتغطية هذه السياسات بغطاء ديني عالمي؟
الفاتيكان والسياسة: من الروح إلى التحالفات
رغم أن الفاتيكان حاول دائمًا الحفاظ على صورته كدولة محايدة ذات رسالة روحانية، إلا أن الواقع يكشف شيئًا مختلفًا. لقد لعبت الكنيسة دورًا سياسيًا محوريًا في كل منعطف عالمي: من الحرب الباردة إلى دعم الثورات، ومن الدفاع عن حقوق الإنسان إلى التدخل في الشأن الداخلي لدول بعينها.
التحليلات تذهب إلى أن انتخاب بابا أمريكي اليوم لا يمكن فصله عن الدور المتصاعد لواشنطن في صياغة مستقبل النظام العالمي. خصوصاً أن الكنيسة الأمريكية – بفرعيها المحافظ والليبرالي – تشكل أكبر قاعدة مالية وتنظيمية داخل الفاتيكان. ومع قيادة أمريكية في البيت الأبيض تقودها أجندة يمينية دينية، فإن تنصيب ليو الرابع عشر قد يمثل تكريسًا لدور الفاتيكان كمكمّل لهذه القوة الناعمة.
بين روما والقدس وواشنطن: أي مسار ينتظر الكنيسة؟
تُطرح الآن أسئلة جدية داخل أوساط الكنيسة نفسها: هل يتحول الفاتيكان إلى أداة في يد التحالف الأمريكي-الإسرائيلي الجديد؟ وهل سيتخلى عن دوره الوسيط بين الأديان والثقافات، ليصطف إلى جانب مشاريع سياسية وأمنية؟ وهل سيتم استخدام الرمزية الدينية لتبرير تدخلات أكثر في الشرق الأوسط وإفريقيا؟
البعض يرى في انتخاب ليو الرابع عشر فرصة لإعادة التوازن داخل الكنيسة، وتوسيع نطاق تأثيرها في العالم الأنجلوساكسوني. لكن آخرين يحذرون من أن هذه الخطوة قد تضعف الفاتيكان في عيون المؤمنين الذين يرونه ضميرًا أخلاقيًا عالميًا، لا يجب أن يُختزل في لعبة مصالح سياسية.
هل البابا الأمريكي بداية عصر جديد..أم أزمة جديدة؟
بين لحظة فرح كاثوليكي بتجديد القيادة الروحية، ومخاوف من تسييس غير مسبوق للكرسي الرسولي، يبقى انتخاب ليو الرابع عشر حدثًا مفصليًا. هل سيتحول إلى مرشد روحي في زمن مضطرب، أم مجرد امتداد ناعم لتحالف صلب بين ترامب ونتانياهو؟ الأيام وحدها كفيلة بكشف ما إذا كان الفاتيكان قد اختار فعلاً خدمة الإيمان... أم خدم أجندة الأقوياء.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك