أنلجنسيا المغرب:حمان ميقاتي
في أجواء يملؤها السكون الروحي،
افتتحت الطائفة الحمدوشية الدغوغية الفاسية عرضها بحديقة جنان السبيل مساء الجمعة،
ضمن فعاليات مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، بلمسة تراثية استثنائية جعلت
من الليلة الخامسة للصوفية تجربة حسية تتجاوز الزمان والمكان.
وبقيادة المقدم نور الدين بنونة، أعادت الطائفة
إحياء طقوس الحضرة، في عرض زاوج بين البهاء الصوتي والإيقاع الروحي، حيث امتزجت
أصوات التعاريج والكَمبري بمدائح تنضح بالوجد الإيماني.
لم يكن الجمهور أمام عرض غنائي فحسب،
بل أمام طقس متكامل من الإنشاد والتضرع والارتقاء، حيث نجحت الطائفة، المؤلفة من
خمسة عشر منشداً، في خلق لحظة تأمل جماعي، جابت فيها أرواح الحاضرين عوالم من
الصفاء والانخطاف الصوفي، مستلهمة قصائد خالدة من ريبرتوارها الغني، أبرزها
"زين الخاتم" و"الورشان" و"اليوبية"، التي وجدت صدى
في قلوب المتلقين، فامتزجت دموعهم مع الألحان في لحظة سكينة نادرة.
الطائفة لم تؤد فقط قصائد، بل نبشت في
الذاكرة المغربية الجماعية، مستحضرة قروناً من التصوف الشعبي الضارب في عمق
التقاليد الروحية لمدينة فاس، فمنذ القرن السابع عشر، والطريقة الحمدوشية تحافظ
على طقوسها التعبدية وإيقاعاتها المتفردة، التي بقيت وفية للآلات الأصلية
كالتعريجة والكَمبري، ما جعل من عرضها خلال المهرجان بمثابة شهادة حيّة على صمود
هذا التراث أمام تقلبات الزمن وتغير الأذواق.
بنبرة معتزة بالإرث، تحدث المقدم نور
الدين بنونة عن هذا السفر الصوفي، مؤكداً أنه فن متوارث عبر الأجيال، تتداوله
العائلات الفاسية كأمانة مقدسة، حيث يتعلمه الأبناء على خطى الآباء. ويضيف أن
العروض تبدأ بطقس "الدخلة" ثم تتوالى الحضرة في تصعيد روحاني متناغم،
تحمله أصوات المنشدين وإيقاعاتهم نحو سمو روحي يندر أن يُحس خارج هذه الأجواء.
عرض الحمدوشية هذا لم يكن عادياً، بل
شكل لحظة ختام باهرة لسلسلة الليالي الصوفية التي ميزت نسخة 2025 من مهرجان فاس،
المنظم تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس، والذي شهد مشاركة أكثر من مئتي
فنان من خمس عشرة دولة. وكان حضور الطائفة إعلاءً لمكانة المغرب كفضاء عالمي
للروح، يُعيد اكتشاف نفسه عبر الموسيقى ويؤكد جذوره الروحية الممتدة.
مهرجان فاس لهذا العام، المنعقد تحت شعار
"انبعاثات"، لم يكن فقط حدثاً فنياً، بل بوابة لقراءة سعي المغرب إلى
تجديد تراثه الروحي بطريقة تحافظ على أصالته وتمنحه حياة جديدة. وبين جنان السبيل
وطيف الذكر، كانت الطريقة الحمدوشية نجم الختام، تشع من خلالها الحكمة الصوفية
بألق لا يخبو.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك