بقلم : د. محمد أحدو
تُواجه
الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية في مجتمعاتنا ظاهرة مستمرة تتمثل في
احتِكار نفس الوجوه والكيانات لمساحات الفعل العام؛ وهو ما أشار إليه السوسيولوجي
بيار بورديو بـ "المهيمنين"1. هذا الحضور المكثف، الذي يُطلق عليه البعض
"وهم العطاء المستمر"، يطرح تساؤلاً محوريًا في صميم العمل الجمعوي: هل
يعكس هذا التواجد الدائم قدرة حقيقية على إحداث زخم وتأثير مستدام في الواقع
المحلي، أم أنه مجرد هيمنة سطحية تُقوّض الفعالية وتُجمّد التجديد؟
إن الإصرار
على "التواجد في كل مكان" يمثل تناقضًا صارخًا مع جوهر العمل الجمعوي
الفعّال، الذي يُبنى على التركيز، والعمق، والتخصص في معالجة مشكلات محددة. عندما
نجد الشخص أو الكيان ذاته يتنقل بين إدارة مبادرة ثقافية، ومناقشة قضايا التنمية،
ووضع خطط التخطيط العمراني في آن واحد، فنحن أمام حالة من تشتت الدور والجهد، يكون
الناتج حتمًا كمّياً رديئًا على حساب الجودة الكيفية. لا يقتصر تأثير هذه الهيمنة
على إضعاف المخرجات فحسب، بل إنه ينسف أيضًا مبدأ المساءلة والتقييم؛ إذ كيف يمكن
قياس الأداء الفعلي لكيانات تداخلت أدوارها وتشابكت إنجازاتها المزعومة؟ إن
الفعالية الحقيقية تُقاس بالتأثير النوعي والمستدام في الميدان، لا بكثافة الظهور
الإعلامي أو تكرار الأسماء.
يشكّل
احتكار القيادة القرار الضرر الأكبر من خلال خنق الطاقات والكفاءات الصاعدة. عندما
تُغلق أبواب القيادة والقرار في وجه الشباب بحجة "الخبرة المكتسبة"
لأصحاب المشهد الدائم، فإننا نحكم على المشهد العام بـ التجمد الهيكلي. هذه البيئة
الرتيبة تقاوم الأفكار المبتكرة وتدفع الكفاءات الشابة إما إلى العزوف الكلي عن
العمل العام أو الهجرة نحو فضاءات أكثر استيعابًا للتغيير. وفي غياب آليات
ديمقراطية وشفافة للتناوب على المسؤولية، تتحول الجمعيات والمبادرات من كيانات
تطوعية إلى ملكيات خاصة، فاقدة لشرعيتها الأخلاقية وروحها الجمعوية. إننا بحاجة
ماسة إلى مراجعة صادقة لبنية العمل الجمعوي في مجتمعاتنا؛ فالمشهد المحلي لا يحتاج
إلى مجرد "الحضور" في كل زاوية، بقدر ما يحتاج إلى العطاء المركز،
العميق، والمتجدد.
للخروج من دائرة الهيمنة السطحية، لا بد من التحول نحو ثقافة التخصص والشراكة. يجب تفعيل مبدأ التناوب وتحديد الولايات القيادية لضمان ضخ دماء جديدة بشكل مستمر في الهياكل الجمعوية. وعلى القيادات ذات الخبرة أن تعيد تعريف دورها لتتحول من "المنفذين الدائمين" إلى "الموجهين والمدربين"، بهدف بناء صف ثانٍ وثالث قادر على استلام المسؤولية بكفاءة. الأهم هو تشجيع التعاون بين جمعيات متخصصة لتكامل الأدوار، بدلاً من محاولة شخص واحد تلبية كل الاحتياجات. إن تحقيق عطاء مستمر ومفيد يتطلب الإيمان بأن القوة تكمن في التخصص والتنوع، وأن الفعالية هي نتاج العمق وليس الانتشار. هذا هو المسار الوحيد لضمان استمرارية الزخم، وعلى الفاعلين المحليين إدراك أن التخلي عن بعض الواجهات لصالح كفاءات أخرى هو مكسب للعمل العام، وليس خسارة ذاتية.
1 Pierre Bourdieu
"La noblesse d'État: Grandes écoles et esprit de corps"
Éditions de minuit. 1989.
الكتاب الذي يتحدث فيه بيار بورديو بالتخصيص عن
الفئة التي تحتكر المواقع والمشاهد الاجتماعية والثقافية والسياسية في سياق
المجتمعات الغربية (فرنسا بشكل خاص)
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك