أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
لم يعد الكلام عن فساد القضاء في
المغرب همسًا بين الجدران، ولا اتهامات مبعثرة في زوايا الغضب، بل تحوّل إلى صرخة
جماعية، تتردد في كل منصات التواصل الاجتماعي، صرخة تعبر عن وجع آلاف المواطنين
الذين ذاقوا مرارة الأحكام الجاهزة، والأوامر الفوقية، والقرارات التي لا تستند
إلى قانون ولا ضمير، بل إلى ميزان مشروخ لا يزن إلا لصالح الأقوى نفوذًا وجاهًا.
القضاء الذي حلمنا به شامخًا،
مستقلًا، عادلًا، صار اليوم في أعين الشعب سوطًا من نار، أداة في يد من يملك المال
والسلطة، يمارس به الترهيب والتصفية، يسحق به الضعفاء، ويقبر الحق في وضح النهار،
لقد مشى القضاء فوق ظهورنا لا احترامًا، بل استكبارًا، وهو الذي كان ينبغي أن يكون
الحامي لحقوق الفقراء، لا الحامي لمصالح اللصوص.
أنا رجل له ماضٍ... ماضٍ ليس في نزاع
مع القانون، بل مع الذين خانوا القانون.
ظلمت من طرف رجل سلطة، وخُدعت من طرف
مسؤول، وطُعنت من طرف محامٍ خصم حوّل قضيتي إلى صفقة، وهو يؤمن ببراءتي... لم
أركع، لم أساوم، لم أبع كرامتي، ولذلك دفعت الثمن، هذه البلاد لم تُخربها الكوارث
الطبيعية، بل دمّرتها أيادٍ خفية تلبس روب القضاء وتخفي تحتها سكاكين الظلم
والتسلط.
حين يصبح الحكم القضائي أداة لتقوية
الغني وتحقير الفقير، وحين يتم طرد الناس من بيوتهم بأحكام قضائية لا تراعي لا
إنسانية ولا عدالة، فاعلم أن البلد في خطر، حين تتحول المحاكم إلى ساحات لتصفية
الحسابات، ويتحول الشهود إلى بيادق تزور الحقائق بأوامر عليا، فاعلم أن الوطن يسير
نحو هاوية بلا قاع.
ما نعيشه اليوم هو مرحلة خطيرة، لم
تعد فيها المحاسبة تطال ناهبي المال العام، بل يُحمى الفاسد ويُصفّى الصادق،
أصبحنا نشاهد عشرات الملفات الكبرى تُطوى في صمت، ويُحتفى بالمفسدين، بينما يُسجن
البسطاء في قضايا تافهة، لص يسرق الملايير يخرج مرفوع الرأس، وطفل سرق دجاجة يُحكم
عليه بشهور من السجن.
هل هذه هي العدالة؟
دائرة الظلم تتوسع، لا أحد في منأى عن
قبضة قاضٍ مرتشٍ أو حكم مفصل على المقاس، لم يعد القضاء ملاذًا للمظلومين، بل صار
مصدر رعب، وساحة لتكريس القهر الطبقي، وإنتاج جيل من العبيد الذين لا يطلبون أكثر
من كسرة خبز وصمت طويل، هذا المسار لن يؤدي إلا إلى الانفجار، والبلد مهدد بانهيار
الثقة في كل مؤسساته.
لكننا لا نعمم، ولسنا دعاة فوضى.
نعرف أن هناك قضاة شرفاء، لا يبيعون
ضمائرهم، ولا يركعون للنفوذ، يشتغلون في صمت، ويحكمون بعدل، أولئك هم عُماد الدولة
الحقيقيون، وهم الذين يستحقون التمجيد والتكريم، لا أولئك الذين حوّلوا العدالة
إلى سلعة، إن الإصلاح الحقيقي لهذا الوطن يبدأ من محاسبة هؤلاء القضاة الذين
يستغلون مواقعهم لتقوية الظلم، وليس بإقامة البنايات الفخمة أو تشييد المحاكم
الحديثة، يجب أن يكون هناك مجلس أعلى للنزاهة القضائية، مستقل، لا يخضع لتعليمات
ولا لضغوط، مجلس يحاسب ويعزل ويطرد دون تردد.
حين نرى مشروعا تنمويا يتعطل بسبب
تواطؤ قاضٍ أو مسؤول فاسد، أو حين تُباع أرض الدولة برخص التراب في صفقات مشبوهة
ولا يتحرك أحد، نعلم يقينًا أن القانون لم يعد يشتغل إلا عندما يريدونه سيفًا على
الضعفاء، حين يُسرق المال العام من المستشفيات والمدارس ولا يتحرك القضاء، بينما
يُسجن مواطن لأنه احتج أو كتب رأيًا، نعلم أن الميزان القضائي انقلب رأسًا على
عقب، وأن الشرفاء أصبحوا في خطر.
لا يمكن أن نحلم بوطن مزدهر، ولا
بنهضة حقيقية، إذا لم نجعل من العدل أساسًا لها، لا تنمية بدون قضاء نزيه، ولا أمن
بدون قضاة يخافون الله، لا الجاه ولا الأوامر، ولا مستقبل لبلد تُغتصب فيه حقوق
الفقراء بتواطؤ قانوني مسكوت عنه، الظلم لا يدوم، وإن طال، والتاريخ لا يرحم من
ظلم وسكت، القاضي الذي يخون ضميره هو عدو للوطن، حتى وإن لبس أفخر الرداء، والقضاء
حين يفقد ضميره، لا يعود مؤسسة، بل يصبح خطرًا على كيان الدولة.
لهذا يجب أن نرفع صوتنا عاليًا،
بالاحتجاج السلمي، بالكلمة، بالتوعية، لا لنحارب القضاء، بل لننقذه من المفسدين
الذين تسللوا إليه، بشواهد "قيليش" معركتنا ليست ضد القضاء، بل لأجل
قضاء نقي يليق بالمغاربة ويصون كرامتهم، نريد قضاءً لا يخاف من أصحاب المال، ولا
يخضع لضغط الهاتف، قضاءً يحمي البسطاء، ويقتص من الناهبين، قضاءً يميز بين المتهم
والبريء، لا بين الغني والفقير.
إنني أكتب اليوم، لا من باب الانتقام،
ولا تصفية الحسابات، بل من باب الغيرة على وطنٍ أحبه وأحترمه، وشوقي إليه يحرقني
كل يوم، وطن يُذبح كل يوم تحت رداء القانون، أكتب لأن السكوت صار خيانة، ولأن كل
لحظة صمت تمنح الظالمين مزيدًا من الوقت لتجريف البلاد.
سيدي القاضي، أنا رجل له ماضٍ... لكنه
ماضٍ مليء بالخذلان من مؤسسة كنت أراها ملاذًا، واليوم، لا أطلب شيئًا إلا أن تعود
العدالة إلى مسارها، لا أطلب المستحيل، بل فقط أن لا يُظلم أحد باسم القانون، هذا
كل ما نريد...
فهل هذا كثير؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك