حين يتنزّل الخير على الفقراء: بركة تعمّ وأجر لا ينقطع

   حين يتنزّل الخير على الفقراء: بركة تعمّ وأجر لا ينقطع
دين / الأربعاء 04 يونيو 2025 - 01:40 / لا توجد تعليقات:

 حين يتنزّل الخير على الفقراء: بركة تعمّ وأجر لا ينقطع

أنتلجنسيا المغرب

الخير حين يو إلى الفقراء، لا يُعدّ مجرد إحسانٍ عابر، بل هو فعلٌ إنساني عظيم يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويشكّل جسرًا بين السماء والأرض. إنه التجسيد الحقيقي لمعنى الرحمة، وروح التكافل، والمحرّك النبيل للعدالة الاجتماعية التي تئنّ تحت وطأة الظلم والجشع.

الفقر ليس عارًا، بل هو امتحانٌ للغني قبل أن يكون للفقير، اختبار لقدرة البشر على مشاركة النعمة، على السخاء، وعلى تطهير النفس من شوائب الأنانية. من هنا، فإن كل فلس يُعطى بصدق، وكل رغيف يُقدَّم بحبّ، هو لبنة في بناء مجتمع متراحم، لا ينهار أمام أزمات الزمان.

الفقير لا يحتاج فقط إلى المال، بل إلى من يشعر به، إلى من يواسيه دون مِنّة، إلى من يعيد إليه إنسانيته المهدورة في طوابير الذلّ ومكاتب التسوّل. عندما يهبّ الخير من القلوب الصافية، يشعر الفقير بأنه ليس وحده في مواجهة الحياة، بل له سند، له ظهر، له يد حنونة ترفعه لا لتمنّ عليه، بل لتقول له: أنت منا ونحن منك.

لا يخفى أن الكثير من المجتمعات فقدت البوصلة، ونسيت أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يملك، بل بما يعطي. غرق البعض في مستنقع الترف والاستهلاك المفرط، بينما جفت ينابيع الخير في صدورهم. وهكذا، ازداد الغني غنًى، واشتدّ الفقير فقرًا، وعمّ الجفاء.

حين يُوجَّه الخير إلى الفقير، فإن البركة تتضاعف، لأنّ الله لا يرضى أن يُخذل عبده المعوز. بل وعد من يسدّ رمقه ويكفيه مذلّة السؤال، بأن يكون في ظله يوم لا ظل إلا ظله. إنه وعدٌ لا يُخلف، وأجر لا يُحدّ، وسكينة لا يعرفها إلا من ذاق طعم العطاء الصادق.

إنها ليست صدقة عابرة ولا زكاة إجبارية فقط، بل هي فلسفة حياة. أن تعطي لا لأنك تملك، بل لأنك تؤمن أن المال وسيلة لا غاية، وأن الغنى الحقيقي هو غنى النفس. هذه المبادئ وحدها قادرة على هزّ جبال القساوة التي تجثو على صدر العالم الحديث.

الفقير في المجتمع هو المرآة التي تعكس أخلاق الأغنياء، هو منبه أخلاقي ينذر بأن العدالة غائبة، وأن هناك فجوة يجب ردمها لا بالخطابات، بل بالأفعال. عندما تتسابق القلوب لفعل الخير، تتوارى الكراهية، ويذوب الحسد، وتنبت شجرة السلام في أرضٍ كانت قاحلة.

من يُطعِم جائعًا، لا يملأ بطنه فقط، بل يبعث فيه الحياة من جديد. ومن يُكسِ عاريًا، لا يستر جسده فقط، بل يعيد له كرامة كادت تتبخر. ومن يُداوِ مريضًا، لا يشفي الجسد فقط، بل يزرع الأمل في أرواحٍ أنهكها الوجع.

الفقر ليس قدرًا أبديًا، لكنه نتيجة لصمت الأغنياء، لتقاعس المؤسسات، لجمود الضمائر. ولذلك فإن الخير في حق الفقراء يصبح صرخة في وجه هذا الصمت، وتمردًا على هذا القبح، ومحاولة لترميم جراح متقيحة من سنين.

في زمن الاستعراض الخيري، صارت الكاميرات تُرفَق بكل تبرع، والنيات تُشكّك عند كل عطية. لكن الخير الحقيقي هو ذلك الذي يتم في الخفاء، دون رياء، دون انتظار تصفيق. إنه الخير الذي يُكتَب في صحيفة الروح لا في منصّات التواصل.

ويا له من أجر، حين تُطعم مسكينًا وتعلم أنك تُطعِم النبيّ لو كان بيننا، تُسقي عطشانًا وكأنك تبلّل شفتَي وليٍّ من أولياء الله، تُرَبّت على طفلٍ يتيم وكأنك تضمّ روحًا تبحث عن مأوى. في كل فقيرٍ مرآة لما بداخلك من نور أو ظلمة.

إن البرّ بالفقراء لا يُعتبر فضلًا، بل هو واجب لا يسقط بالتقاعس، بل يحاسب الله عليه. لأن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه. واليد العليا لا تُكرم لأنها تعطي، بل لأنها تحمل الأمانة وتُحسن تصريفها.

التاريخ لا ينسى أولئك الذين أحسنوا إلى الفقراء، لا لأنهم بنوا مساجد أو دورًا فاخرة، بل لأنهم مسحوا دمعة، وفرّجوا كربة، وأحيوْا نفسًا، وتركوا بصمة في قلوبٍ متعبة. الخير يبقى، يخلد، يرافق صاحبه حتى في قبره.

في الفقر تتجلى المعاني الإنسانية العظمى: التواضع، الرحمة، الشعور بالآخر، السخاء. ومن لم يذق ألم الجوع فلن يعرف أبدا لذة الإطعام. ومن لم يعش البرد، فلن يفهم معنى أن تهبّ بمعطفك على من يرتجف.

الخير لا يُقاس بحجمه، بل بنيته. قد تُعطي دينارًا فيكون خيرًا من قافلة تبرعات، لأنك أعطيته بحب، بصدق، بإنسانية. وقد تترك طعامك لفقرٍ أشد منك في الحاجة، فتكون بذلك أقرب إلى الله ممن يملك ولا يواسي.

الفقير لا يريد شفقة، بل كرامة. لا يريد صدقة، بل احتواءً. وعندما يتحول الخير إلى عادة في المجتمع، نكون قد اقتربنا من معنى "أمة الرحمة"، تلك التي يُباهي بها الأنبياء يوم الحشر.

حين يتصاعد البخار من قدرٍ في بيت فقير بفضل تبرع بسيط، حين يضحك طفل لأنه وجد حذاءً يقيه صقيع الطريق، حين ترتاح أم لأن ثمن الدواء وُفِّر لها، فاعلم أن البركة حلّت، وأن الأجر لا يُضاهى.

الفقراء ليسوا عبئًا، بل فرصة لنا لنثبت إنسانيتنا، لنرتقي من رتبة الكائنات المستهلكة إلى مقام الكائنات المتراحمة. والخير هو السلم الذي نصعد به نحو الطهر، نحو القرب من الله، نحو السلام مع الذات.

حين يُفتَح باب الجود، تُغلَق أبواب الفتنة. وعندما يُعطى للفقير حقه، يُنزع الحسد من القلوب، وتُزرَع الثقة، وتُبنى جسور التعايش، ويُعاد ترتيب المجتمع من جديد على أساس من العدالة والرحمة.

الفقر امتحان للمجتمع كله، والخير هو الجواب النموذجي. ولئن كان هناك مَن ينتظر جزاءه يوم القيامة، فهناك من يعيشه في لحظة دعاء صادق من قلب جائع، أو ابتسامة امتنان من أمّ كسَت طفلها بفضلك.

الخير للفقراء هو أجمل ما يعبّر عن قوة المجتمع، لأنه يثبت أن الغني لم يتعجرف، وأن الفقير لم يُهمَل، وأن النعمة حين توزّع، تُبارك، وتتكاثر، وتُحيي من جديد آمالاً كانت راكدة.

فيا من بيده مال، لا تنتظر مناسبة لتُعطي، ولا تترقب ظروفًا لتُحسن. الخير في حق الفقراء لا يُؤجَّل، لأنه علاج عاجل لألم مزمن، ولأن الأجر لا يتأخر عن الساعين إليه.

ولمن يظن أن المال ينقص بالعطاء، فلينظر إلى البركة حين تزور بيته، وإلى الطمأنينة حين تنام في قلبه، وإلى السكينة التي لا تُشترى، بل تُهدى لمن أعطى بصدق.

وهكذا، يظل الخير للفقراء أرفع أبواب الجود، وأسمى ما تقدمه البشرية لنفسها قبل غيرها، لأن من يَرحم يُرحَم، ومن يُعطِ يُعطى، ومن يواسِ يُواسى، ومن ينقذ إنسانًا من الذلّ، يُكتب في سجلّ الأبرار.

هل ترغب في نسخة قابلة للنشر في صحيفة أو مدونة؟

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك