بقلم: إيمان جالوت
في زمنٍ يتغنّى فيه الناس بالقيم،
ويمتلئ فيه اللسان بالدين، نكتشف أن قلوبًا كثيرة لم تعد ترى في الزواج من مطلقةٍ
بأطفالٍ إلا عبئًا ومعرة، لقد تحوّلت نظرة المجتمع إلى هذا النوع من الزواج إلى
نوع من "الانتحار الاجتماعي"، وكأن من يقبل برعاية أطفال ليسوا من صلبه
إنما هو خاسر أو مغفل، لا يستحق الاحترام.
أين ذهبت معاني الإيثار والتضحية؟
وهل
تغير الدين أم تغيرت قلوب المؤمنين؟
الصحابة، وهم من تلقوا الدين من نبع
النبوة، كانوا يسارعون إلى الزواج من الأرامل والمطلقات، خصوصًا اللواتي لهن
أطفال، طلبًا للأجر وخوفًا من أن تضيع الذرية، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خطب
أم كلثوم بنت علي وعمره متقدم، ليس لهوى أو شهوة، بل ليجمع بين نسب النبي صلى الله
عليه وسلم وبين رحمةٍ أراد بها وجه الله.
اليوم، إذا فكرتَ في الزواج من مطلقة
بأطفال، تنهال عليك نصائح الأهل والأصدقاء بالابتعاد، وكأنك على وشك ركوب مركب
يغرق. يُتهم الرجل الذي يُقبل على ذلك بأنه "حالم" أو "متسرع"
أو "فاقد للبوصلة".
أما المرأة، فتوصف بأنها
"انتهت" و"ما بقى ليها سوق".
أي انحطاطٍ قيمي وصلنا إليه؟ وأي
ثقافة هذه التي تجعل من الأمومة وصمةً بدل أن تكون تاجًا؟
الخلل ليس في الدين، بل في العقول
التي تتلقى الدين بانتقائية مريبة. الدين لا يتغير، لكن المجتمعات تعيد تأويله بما
يخدم مصالحها ومخاوفها. أصبح الزواج مشروع مصلحة بحتة، فيه حسابات للأرباح
والخسائر، للأنساب والمظاهر، للراحة وليس للرسالة.
واحدة من أكبر الكوارث الفكرية التي
رسختها وسائل الإعلام الحديثة هي تصوير الزواج على أنه فقط علاقة رومانسية بين
شابين بلا مسؤوليات، بلا تاريخ، بلا التزامات مسبقة. هذه الصورة المسطحة أقصت فئة
كبيرة من النساء عن دائرة القبول، وجعلت منهن "حالات خاصة" بدل أن يكنّ
شقائق للرجال.
المرأة المطلقة بأولادها ليست
"عالة" على الرجل، بل قد تكون أكثر نضجًا، أكثر وفاءً، وأقدر على تقدير
الحياة الزوجية لأنها دفعت من روحها ثمن تجارب قاسية. وبدل أن تكون هذه الصفات
مزايا، تصبح في ميزان بعض الناس عيوبًا قاتلة.
ثم أين ذهبت الرحمة؟
ألم تكن الرحمة هي الغاية التي دعا
لها الدين؟ من قال إن الزواج من مطلقة هو صدقة؟
بل هو مشروع حياة، فيه تكافل ومروءة
ورجولة، ومن يدخله لا يَحْسُن به أن يبحث عن "عذراء جميلة مطيعة بلا
مسؤوليات" فقط، وكأن النساء مجرد كائنات للزينة لا للعيش الحقيقي.
هذا التحول ناتج عن عولمة مفاهيم
سطحية عن الجمال والعلاقات، غزت بيوتنا عبر الشاشات والهواتف، أصبحنا نستهلك صورًا
عن الزواج المثالي دون أن نعيش جوهره، ومع الوقت، صرنا نخجل من الطيبين، ونضحك من
الحالمين، ونخاف أن نكون نحن من يتزوج تلك "المرأة ذات الأطفال" .
الضغوط الاجتماعية والأسَرية تلعب
دورًا كبيرًا. الرجل الذي يريد الزواج من مطلقة بأطفال يجد نفسه في مواجهة مع
والدته وأخواته وأصدقائه. الجميع يزرع فيه الشك والريبة، والجميع يطالبه
بـ"امرأة على مقاس العائلة" لا على مقاس قلبه أو دينه.
والمرأة نفسها، تجد في نظرات المجتمع
إدانةً مسبقة. "ليش تطلقت؟"، "وأولادك على من؟"، "وشحال
فيك ديال المشاكل؟". كأن الطلاق يُفرغ المرأة من إنسانيتها ويجعلها سلعة
مستعملة تُباع بأرخص الأثمان.
الأطفال الذين تُربيهم الأمهات
المطلقات هم غالبًا ضحايا لهذا الإقصاء الممنهج.
لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في زمن
صارت فيه الرجولة تقاس بالهروب من المسؤولية، والأنوثة تُختزل في الجسد وليس في
الأمومة والتربية.
كل رجل يرفض الزواج من مطلقة لأنه
"ما باغيش يربي أولاد الناس"، ينسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربّى
أبناء غيره، واحتضنهم، وفتح بيته لهم. هل نحن أعظم من النبي؟ أم أن قلوبنا أضيق من
أن تحتمل ذرية ليست من دمنا؟
المرأة المطلقة لا تطلب صدقة، بل تطلب
شراكة تحترم تاريخها، وتعترف بأمومتها، وتمنحها فرصة لبداية جديدة. كل أم عانت
ونجت بأطفالها تستحق الاحترام، لا الإقصاء. تستحق الرفيق لا المتفرج، وتستحق أن
تكون محط اختيار لا شفقة.
العيب ليس في الزواج من مطلقة بأطفال،
بل في عقلية ترى الأمومة عبئًا والطفل وصمة، بينما كانت الأديان السماوية جميعها
تحتفي باليتيم وترفع شأن من يرعاه.
كيف يمكن لمجتمع أن يدّعي الطهر وهو
يرفض الاحتضان؟
كيف يمكن لعقلٍ أن يتغنى بالقرآن وهو
يمرّ على آية "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ
خَيْرٌ" دون أن يلتفت إلى واقع الأطفال الذين يُتركون لأمهاتهم في عزلةٍ
وألم؟
إذا كانت الرجولة الحقيقية تُقاس
بالمواقف، فإن من يختار الزواج من مطلقة بأطفال لا يحتاج مديحًا، بل يحتاج سندًا
من مجتمع يكف عن إطلاق الأحكام المجانية.
هذا التراجع في القيم ليس قضاءً
وقدرًا، بل هو نتاج تربية ناقصة، وتكرار خطابات تحقيرية للمرأة المطلقة، علينا أن
نعيد صياغة خطابنا العاطفي والديني والتربوي، حتى يفهم الناس أن الرقي الإنساني لا
يُقاس بعدد الأطفال، بل بقدرة القلب على الحب والاحتواء.
ما نحتاجه اليوم ليس فتاوى جديدة، بل
قلوبًا جديدة. قلوب تعرف أن الخير في الرعاية، وأن الإحسان في الاحتضان، وأن
الزواج ليس صفقة، بل مشروع رسالة.
في النهاية، سيحاسبنا الله لا على عدد
من تزوجناهن، بل على من احتضنا وراعينا وواسينا. فليختر كل واحد منّا موقعه: أن
يكون من أهل الرحمة أو من صانعي الجراح الصامتة.
هل نملك الشجاعة لنكسر هذه القاعدة
الجائرة؟ أم سنواصل الصمت ونُعمّق الجراح في قلوب نساء وأطفال لا ذنب لهم سوى أنهم
ما عادوا يُناسبون خيالنا المشوّه عن "العائلة المثالية"؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك