أنتلجنسيا المغرب: وصال . ل
في كل سنة،
ومع اقتراب عيد الأضحى، يتحول المغرب إلى خلية نحل نابضة بالحركة والتجهيز، حيث
تنبعث من الأزقة روائح البهارات، وتعلو أصوات الباعة في الأسواق، ويتحوّل المنزل
المغربي إلى مسرح تحضيري كبير لطقوس تمتد جذورها في أعماق التاريخ.
في أولى خطوات العيد، يبدأ المغاربة بالبحث عن "كبش
العيد"، وهي رحلة ليست بالبسيطة، تحمل في طياتها مفاوضات شرسة مع
"الشناقة" ومقارنات لا تنتهي بين جودة السلالة وسعر الذبيحة، لتتحول
السوق الأسبوعية إلى معركة من أجل الظفر بـ"الحولي المثالي".
اختيار الخروف لا يخضع فقط للميزانية، بل يُعتبر أيضا رمزا
للرجولة والمكانة الاجتماعية في كثير من الأوساط الشعبية، لذلك لا يتردد بعض الأسر
في الاقتراض من أجل شراء "عيد مشرف"، حتى وإن كان الثمن هو الديون
الطويلة.
ومع ليلة العيد، تبدأ العائلة المغربية في تهيئة الفضاء الداخلي
للبيت، حيث تُنظف الزرابي وتُفرش الأرائك، بينما تُخبز "الشباكية"
و"السفوف"، وتُعد "رغايف العيد"، في استعداد جماعي يوحي
بعُرسٍ كبير أكثر منه مناسبة دينية.
صبيحة العيد، وبمجرد انتهاء صلاة العيد، يتسابق الرجال نحو
الخروف في مشهد ملحمي، حيث تُشحذ السكاكين وتُدهن بالنار، ويجتمع الجيران حول من
يملك الخبرة في الذبح والتقطيع، في أجواء تختلط فيها التكبيرات برائحة الدم
والتقاليد.
النساء من جهتهن ينطلقن في مرحلة تنظيف "الشواء"، حيث
تُغسل الأحشاء بدقة متناهية، وتُخصص ساعات طويلة لتنقية "الكرشة"
و"الرية"، في طقس تُتقنه الجدّات قبل أن تورّثه للبنات والحفيدات كفنّ
مقدس لا يُستهان به.
تأتي بعدها مرحلة "الشي"، وهي لحظة الذروة في
الاحتفال، حيث تُشعل النار في "المجمر"، وتُعلق الكبدة الملفوفة في
الشحم فوق الجمر، بينما ينتشي الجميع برائحة الشواء التي تخترق الأحياء وتخلق
منافسة غير معلنة بين الجيران.
يُعد "بولفاف" أول وجبة يتناولها المغاربة يوم العيد،
وهي قطع كبد ملفوفة في الشحم ومشوية على الفحم، تُقدّم مع خبز ساخن وكؤوس الشاي،
في جو احتفالي يجمع العائلة ويُشعل الحنين في نفوس المغتربين.
النهار الأول للعيد لا يكتمل دون توزيع "الزريعة"
و"الملبس" و"القريوش"، حيث تُفتح الأبواب للأصدقاء والجيران
لتبادل التهاني، وتبدأ سلسلة الزيارات التي تُعد جزءاً لا يتجزأ من الروح
الاجتماعية للمغاربة.
الزيارة العائلية لا تقتصر فقط على التهاني، بل يُنظر إليها
كواجب مقدس يعيد الروابط العائلية إلى الواجهة، حيث تُزار المقابر، وتُقرأ الفاتحة
على أرواح الأجداد، وتُقدم الأضاحي عنهم وفاءً لذكراهم.
اليوم الثاني والثالث من العيد يتحولان إلى فرصة لالتقاط
الأنفاس واستغلال اللحوم المُخزنة لتحضير الأطباق التقليدية، مثل
"الدوارة" و"الرأس المبخر" و"المروزية"، وهي أكلات
لها طابع احتفالي خاص يتجاوز مجرد التغذية.
يتفنن الرجال في تحضير الشاي المغربي وتقديمه للضيوف، فهذه
المناسبة تُعد فرصة لإبراز المهارات في حسن الضيافة، من نوعية النعناع إلى حرارة
الكؤوس وانسيابية "البراد"، وكل ذلك يتم أمام أنظار الضيوف الذين
يتذوقون قبل أن يعلقوا.
لا تغيب الموسيقى عن بعض المناطق، خصوصا في القرى والجبال، حيث
يُقام "أحيدوس" و"العيطة" و"الكدرة"، وتتحول ساحات
الدواوير إلى منصات فرح جماعي يدمج بين الدين والثقافة والفن الشعبي الأصيل.
أما الأطفال، فهم يعيشون العيد كحكاية سحرية، حيث تُشترى لهم
ملابس جديدة، ويُسمح لهم بالمشاركة في بعض تفاصيل الذبح والشواء، كما يتلقون
"العيدية" ويقضون ساعات طويلة في اللعب والمفرقعات.
في المدن الكبرى، أصبحت بعض الأسر تكتفي بأضحية صغيرة أو حتى
تشتري اللحم الجاهز من المجازر العصرية، لكن هذا لم يمنع العيد من الحفاظ على
روحانيته حتى وسط الإيقاع السريع للحياة الحضرية.
يبقى "عيد الكبير" في المغرب مناسبة جامعة، يُذبح
فيها الكبش لكن تُذبح معها أيضا كل الخلافات العائلية، حيث يُصالح المتخاصمون،
وتُفتح القلوب قبل الأبواب، وتعود صلة الرحم لتتربع على عرش العلاقات الاجتماعية.
تتداخل في العيد قيم التضامن والتكافل، حيث تُوزع اللحوم على
الفقراء، وتُنسج خيوط الرحمة بين الجيران، في طقس ديني اجتماعي يجعل من الأضحية
أكثر من مجرد شعيرة، بل مناسبة لصناعة الألفة والانتماء.
ورغم الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة، يظل عيد الأضحى عند
المغاربة من أقدس المناسبات، يُحتفل به بتكلف أو بتواضع، لكن دومًا بحب وكرامة
وإصرار على الحفاظ على التقاليد.
العيد ليس فقط لحظة للذبح، بل محطة للذاكرة، تُستعاد فيها
الطفولة، وتُروى فيها الحكايات القديمة، وتُخلق فيها روابط جديدة، ليظل هذا العيد
رمزًا لوفاء المغاربة لعاداتهم، رغم تبدل الأزمنة وتعاقب الأجيال.
ختامًا، لا يمكن الحديث عن
العيد دون استحضار روحه العميقة في المجتمع المغربي، الذي يجيد تحويل المناسبات
إلى طقوس حية، تجعل من عيد الأضحى أكثر من مجرد عيد، بل ملحمة اجتماعية تُكتب كل
سنة بأصوات الشواء ودموع الفرح وصدى التكبير.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك