عبدالحق الريكي الذاكرة والريف والسياسة (الجزء الأول)

عبدالحق الريكي الذاكرة والريف والسياسة (الجزء الأول)
أقلام حرة / الخميس 19 يونيو 2025 - 13:32 / لا توجد تعليقات:

 بقلم: عبد الحق الريكي

موح الحاج أَفْقِيرْ… رجل رفض أن يُقتل مرتين

لا أعرف الكثير عن جدي، موح الحاج أفقير. لم أره قط، ولم يحدثني عنه أحد طويلاً، لكن ظله ظل يرافقني منذ وعيت على معنى الظلم، والهوية، والمقاومة.

اسمه كان يُذكر في البيت نادراً، وبصوت منخفض. في ريفنا الجريح، حين يُقتل أحدهم مرتين مرة بالرصاص، وأخرى بالصمت تصير الحكاية ثقلاً تتوارثه الأجيال.

كان جدي من رجال الريف الذين لبّوا نداء محمد بن عبد الكريم الخطابي، وصعدوا الجبال يحملون الحلم والبندقية. قاوم الإسبان إلى أن فرضت السياسة، لا الرصاص، نهاية المعركة. لكن قدره لم يتوقف عند النضال من أجل وطنه.

مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، بدأت القوات الفرانكية تجنيد شباب الريف قسراً لإرسالهم إلى جبهة لا يفهمونها. كانوا يُؤخذون من حقولهم، من بيوتهم، ليُزجّ بهم في معركة بين إسبان يقتلون إسباناً… حرب لا مكان فيها للريفي، إلا كوقود.

رفض جدي أن يكون جندياً في جيش الجنرال فرانكو. رفض أن يقاتل باسم من كان بالأمس يقتل أبناء قبيلته. فحكم عليه بالفرار… أو بالموت. اختار الفرار.

لكن رصاص الفرانكاويين كان أسرع. قُتل جدي وهو يحاول التملص من التجنيد القسري. لم يُحاكم، لم يُدفن بكرامة، لم يُذكر في وثائق. قُتل فقط، ومضى… كما مضى كثيرون مثله، سقطوا بصمت في هوامش التاريخ. 

أحيانًا أفكر: ما الذي كان يدور في ذهنه في لحظاته الأخيرة؟ هل كان يرى وجه ابنيه، أو زوجته، أو عبد الكريم؟ هل كان غاضبًا، خائفًا، أم فخورًا بقراره الأخير؟

كل ما أعرفه أنني أحمل اسمه في دمي، وصوته في صمتي، ورسالته في قلمي.

حين أكتب اليوم عن الريف، عن السياسة، عن الخيانة والوفاء، عن الحلم والخذلان، لا أفعل ذلك ككاتب فقط… بل كحفيد لرجل رفض أن يكون مجرد ضحية. جدي، موح الحاج أفقير، لم يمت عبثًا. لقد علّمني، من دون أن أراه، أن الكرامة أحيانًا أغلى من الحياة.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك